-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العقل الغربي المتألّه: بين التقدم المادي والانهيار الأخلاقي

د. حسين بوبيدي
  • 914
  • 0
العقل الغربي المتألّه: بين التقدم المادي والانهيار الأخلاقي
 

قوبل تصرف المنتخب الألماني لكرة القدم -الذي كمّ لاعبوه أفواههم احتجاجا على منع شارة الشواذ في بطولة كأس العالم لكرة القدم المقامة بقطر- باستهجان شديد من قبل الشعوب الإسلامية، وبقية الشعوب المحافظة، وكشف هذا التصرف عن صورة من صور الاستبداد الفكري للرجل الأوروبي الأبيض، الذي يقدّم نفسه على أنه النموذج الذي يجب أن تقلّده كل المجتمعات وتتبنى قيمه وثقافته، أو توصم بالرجعية والتخلف والظلامية، ولم يكن تصرف اللاعبين الألمان استثناءً؛ بل امتدادا لمواقف عبّرت عنها مؤسسات وازنة في أوروبا، إذ استنكر البرلمان الأوروبي “انتهاك حقوق” من أسماهم “مجتمع الميم”، وهو نفس الموقف الذي عبرت عنه منظمة هيومن رايتش ووتش.

وفي سياق التضامن الغربي لحماية هذه الانحرافات التي تسمى “حقوقا”؛ أعلنت منظمة النقل في مدينة لندن حظر إعلانات الدوحة على حافلات وسيارات الأجرة والقطارات في العاصمة البريطانية، وهكذا تعمل مختلف المنظمات والهيئات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني التي تسير في هذا الفلك الفكري على تكريس الصورة النمطية التي يحملها الغرب عن الشرق، وتؤكد أزمة العقل الغربي المتموقع على نفسه والعاجز عن فهم المخرجات الكارثية لريادته العلمية والسياسية؛ منذ الحركة الاستعمارية، ونهب خيرات الشعوب، وتهديد النظام البيئي للكرة الأرضية، وتهديد مستقبل الأجيال بسبب النمط الاستهلاكي وأثره في استنزاف مختلف الثروات المائية والباطنية وتهديده الحياة البرية، وصولا إلى تهديمه أسس قيام المجتمعات واستمرارية تعمير الانسان للأرض؛ عبر هدم الأسرة وتحويل حالات مَرضية وانحرافات سلوكية إلى أنماط للعيش تدافع عنها الدول والمؤسسات والمنظمات بكل صلافة.

إن إصرار الغرب على امتحان الشرق يكشف عن تجذر الثقافة العنصرية، والتي انتقلت من عالم الألوان إلى عالم القيم والأفكار، فالغرب –مع وجود مقاومة ضعيفة لهذه الفلسفة- قد انتصرت فيه التيارات الإلحادية وحركات اليسار المبشرة بأخلاق النسوية المتحررة، والشذوذ الذي يحميه القانون وتنتصر له الدولة وتربى على قبوله الناشئة في المدارس والمؤسسات التعليمية، في الوقت الذي لا يُمنح للدين أي مساحة ضمن المناهج الدراسية الرسمية إلا باعتباره حقبة تاريخية تجاوزها العقل الإله، وهو يريد أن يجبر  كل شعوب العالم على سلوك طريقه، وتقفّي أثره، عامدا إلى استغلال أدوات القوة المادية التي يمتلكها (اقتصاد، تكنولوجيا، قوة عسكرية) لتغيير المناهج التربوية لتتماشى مع قيمه وتقطع مع أصالة الشعوب ومرجعياتها الحضارية، وإعادة تشكيل العقول بالخطاب الإعلامي الموجَّه الذي يصيغ هذا الجدلَ الفكري دوما أنه صراع بين التنوير والظلام، وبين العقل والخرافة، وبين عوالم الحاضر  وأساطير الماضي، ويوظف الضخ الكثيف في المنتوج السينمائي والمسرحي والروائي لتركيز مفاهيم بديلة لكل المنظومات الأخلاقية استعجالا لإحداث انقلاب شامل يحوّل موجة الإلحاد واللا أدرية إلى دين إنساني يرث الأديان، ويستفرد بالإنسان، ليبني له مستقبلا قوامه الاستهلاك وعبادة العقل الغربي.

ينبغي فهم الطريق الذي دفع العقل الغربي إلى هذه النهايات؛ وقد كان مسارا شكل نهاية التدافع بين الدين المبدَّل والعقل المتأله، وعندما انتصر هذا الأخير حاصر الدين، ونجح في دفعه نحو دوائر ضيقة ومعتمة، وعمل على منعه من فك أسْره وممارسة دوره على مختلف الأصعدة، وقد حاول الدين في الغرب أن يسترجع سلطته المعرفية على المجتمع، ويبذل وسعه في إعادة إنتاج مقولات تسمح له بتجاوز حالة الأسْر  والتضييق والتوظيف، لكنه عجز بسبب افتقاده إلى أدوات القوة، وانتقالها إلى أطراف أخرى تعتبر تمظهرات لتأليه العقل الذي صار  يعبر عنه كقائد موجه لمنجزات الحداثة.

لقد عمل العقل الغربي المتأله على إقامة فلسفة تشمل كل ميادين الحياة بحيث يستوعب مختلف تمظهراتها عبر التنظير والتقنين، وسمحت له الحركة الاستعمارية أن يخترق المنظومات الفكرية للشعوب المستعمَرة وخاصة الشعوب المسلمة التي كان الدين أحد أهم عناصر مقاومتها للاحتلال، فعمل على استدخالها ضمن رؤيته التي اجتهدت لإعادة بناء مفاهيم جديدة في التحسين والتقبيح، والخير والشر، والمقبول والمرفوض، فهذا العقل من خلال تطوير تصورات جديدة للفكر السياسي أنتج شرعية لم تعد مبالية بأي مرجعية دينية، ومن خلال التأسيس لقوانين علمانية تم إعادة إنتاج النظم القضائية التي أقصت الدين عن أهم أدواره التي استمر متشبثا بها رغم حجم الانحرافات السياسية، ومن خلال مفاهيم الإدارة الجديدة وإعادة تنظيم العلاقات المجتمعية استنادا إلى نفس القيم اختفى التأصيل الديني الذي كان أساس كتابة الوثائق ومختلف أنواع العقود، وهكذا انحسر الدين داخل ما أراده له العقل المتأله؛ العلاقة بين الانسان وربه من خلال مجموعة من الطقوس التي طغت عليها أحيانا حالة من المأتمية بسبب تقديم الدين مسؤولا فقط عن تنظيم الجنائز وإيصال الميت إلى قبره.

إن المشكلة التي يلاحظها المتابع لعالم الأفكار  -الذي له صيرورة تحكمه رغم تعقد التشكل وتداخل العوامل والمؤثرات- أن هناك من داخل الحقل الديني من ساهم في عملية إبقاء الدين في الأسْر، من خلال تقديم قراءة تتماهى مع تصورات العقل الغربي، وتنتصر لمخرجات فلسفته، بالتأكيد على سكونية الدين وخصوصيته الفردية، وعزله عن المساهمة في التدافع الفكري والاجتماعي والسياسي بزعم الحفاظ عليه وعلى طهره من أدران السياسة، وأغلب هؤلاء جهلة بجذور تشكُّل هذا الخطاب الذي استولى على قداسة الدين لصالح مقولاته، وأعاد بناء لاهوت جديد له قواعده وتصوراته حول الدولة والسلطة والقانون والأخلاق ومختلف المؤسسات، وعمل عبر المراقبة والمعاقبة على تحقيق إخضاع حقيقي للانسان لمنظومته من خلال وضع اليد على كل المؤسسات، والإجبار بسلطة القانون على تشكيل الانسان داخلها وقولبته وفق الرؤية الغربية المتألهة، وهناك طرف آخر عمل لتحقيق هذا العزل نصرة لمشروع الغرب ودفاعا عنه، وتضحية في سبيله، وقد صار للعقل المتأله عقائده وأركانه وشروط صحة الانتساب إليه، وله شهداء وقديسون يحيطهم المريدون بعبارات التبجيل، ومن فهم جيدا السياسة الثقافية التي مارسها الاستعمار الفرنسي في الجزائر تجلّى له الهدم الهوياتي كأحد أهم وسائل تثبيت الاستعمار، وإخضاع الشعوب، إذ أن مصادرة الأوقاف، ومحاربة تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، والوصاية على المساجد والكتاتيب والزوايا، كان أداة مركزية في تفكيك بنى المجتمع الجزائري وكسر قدرته على المواجهة.

إصرار الغرب على امتحان الشرق يكشف عن تجذر الثقافة العنصرية، والتي انتقلت من عالم الألوان إلى عالم القيم والأفكار، فالغرب –مع وجود مقاومة ضعيفة لهذه الفلسفة- قد انتصرت فيه التيارات الإلحادية وحركات اليسار المبشرة بأخلاق النسوية المتحررة، والشذوذ الذي يحميه القانون وتنتصر له الدولة وتربى على قبوله الناشئة في المدارس والمؤسسات التعليمية، في الوقت الذي لا يُمنح للدين أي مساحة ضمن المناهج الدراسية الرسمية إلا باعتباره حقبة تاريخية تجاوزها العقل.

في زمن مضى كان الكثير  يعيش وهم الاستثناء الإسلامي أو الشرقي عن عبور نفس مسار انتصار العقل المتأله المعادي للأخلاق في الغرب، ويؤكد هؤلاء أن منظومة القيم وعمق الايمان ورسوخ العقائد سيحمي المجتمعات الإسلامية من هذه الردة الأخلاقية، ويحفظ لها هويتها، وركز الكثير من المحافظين على إمكانية الاستفادة من هياكل الحداثة ومنتجاتها وأطرها التنظيمية دون تبني مخرجاتها القيمية، لكن خطاب العقل المتأله وفلسفته يكاد يمثّل اليوم بسبب الهيمنة الغربية: روح العالم وعقله الكلي، لأنه محيطٌ بكل تفصيلات الحياة، ولا يزال يتقدم ليسيطر على مساحات لم يستعمرها بعد، وخاصة من خلال التدخل في السياسات التعليمية والتربوية للدول المتخلفة، والضغط عليها عبر الديون والتسليح والحماية، بل إنه نجح في الدفع بخصومه على مدافعته من داخله، أي نقد العقل المتأله بأدواته ذاتها، لأن كل الخطابات الأخرى تم تصويرها على أنها: دغمائية، خرافية، بسيطة، تافهة، متجاوَزة، وغبية، وهكذا انتصر العقل الغربي حتى في المواقع التي يظن خصومه أنهم هزموه فيها، لأن التسليم أن منظومته الفكرية هي أداة التفكير الوحيدة هو نوع من الإقرار  بالهزيمة.

لم يقتصر العقل الغربي المتأله على هزيمتنا في واقعنا، بل نجح أيضا في بناء نظرتنا للماضي، وأجبرنا على الانخراط في طريقة وعيه بالتاريخ، وبالتالي فإن عملية الاستدعاء والاستلهام إنما تتم وفق رؤى غربية تحاول توظيف الماضي في إنتاج حاضر متماه معها، ولم يعد هناك في الأغلب قدرة على تقديم بدائل مقنعة، لأن العقل اليوم تم سجنه داخل منظومة محددة؛ هي المنظومة الغربية المتمركزة حول ذاتها، والتي ترفض حتى التعاطي مع المختلف باعتباره صاحب رأي، بل بكونه مجرد كائن يصر ّ على العيش بتصورات عصور الظلام.

إن الشعوب المسلمة اليوم تحتاج جهودا كبيرة لتبدع حداثتها الخاصة، ولن يتم ذلك إلا بتحقيق استقلاليتها الاقتصادية، ومنافستها التكنولوجية، ومدافعتها الفكرية، وبذلك تحافظ على هويتها وانتمائها الحضاري، وتحمي منظومتها الأخلاقية من أن تبتلعها منظومة الشذوذ الهادمة، وتمنع من ذوبان شخصيتها داخل فلك الحضارة الغربية، وهنا ينبغي التأكيد على أن كل تقدم مادي على حساب هوية هذه الشعوب ليس سوى انتكاس يحوّل الحضارة العربية الإسلامية من مشروع منافس للفضاء الإغريقو روماني إلى مجرد ذيل تابع له ينتج عنه أجيال قد تكرر ما فعله اللاعبون الألمان متوهمة أنها تدافع عن الحرية وحقوق الانسان والعيش المشترك وعدم التمييز.

إننا نملك اليوم ما نقدمه للعالم: الأخلاق التي تحمي البشرية من مستقبل مظلم، هذه الأخلاق التي تشكل منظومة كاملة داخل الإسلام، ولكن قبل أن نطمع في إقناع غيرنا بها لابد أن نتمثلها في حياتنا أولا، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثت  لأتمم مكارم الأخلاق”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!