-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين عالم الأفكار وعالم الأشخاص

ناصر حمدادوش
  • 704
  • 0
بين عالم الأفكار وعالم الأشخاص

يرى مالك بن نبي (1905م– 1973م)، في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، والذي أتمَّه سنة 1970م، أنَّ الإرادة الحضارية هي طوع الفكرة الدينية، وأنَّ المَهمّة الأساسية للثقافة كأسلوبٍ حضاريٍّ هي تحريك الإنسان عبر القنوات الأربع: المبدأ الأخلاقي، والذوق الجمالي، والمنطق العملي، والتقنية، وأنَّ صعود الحضارة أو سقوطها مرتبطٌ بمدى تمحورها حول الأفكار.
ويرى بن نبي بأنَّ خيار العالم الغربي – ذي الأصول الرومانية الوثنية – قد جنح إلى ما يحيط به من الدنيا فقط، أي نحو عالم الأشياء والمادة، بينما كانت الحضارة الإسلامية – عبر عقيدتها الدينية المرتبطة بالرُّسل الموحَى إليهم من السَّماء – قد سَبَح خيارُها نحو التطلُّع الغيبي إلى ما وراء المادة والطبيعة، أي إلى عالم القيم والأفكار.
ومن أهمِّ إبداعاته في التأصيل المنهجي لتوليفته الشَّهيرة بين مكوِّنات تلك الثلاثية المعروفة، وهي: عالم الأشياء، وعالَم الأشخاص، وعالَم الأفكار، وهو يتلمَّس أسبابَ نهضة الأمة الإسلامية من جديد، وأنَّ أزمتها الحضارية تكمن في عدم التوازن بينها، ولذلك فإنَّ مالك بن نبي يعتقد بأنَّ أزمة العالم الإسلامي في العصر الحديث هي أزمةٌ حضارية، أي أنها أزمةُ أفكارٍ بالأساس، وليست أزمةَ وسائل أو ثروات.
وإذا كان الميزان الثقافي للعرب مختلًّا في الجاهلية، بهيمنة عالم الأشياء (الأصنام) وعالم الأشخاص (الزُّعماء) على عالم الأفكار (العقائد والتصوُّرات الصحيحة)، فقد أبصر ذلك المجتمع نورًا جديدًا متفاعلاً مع العالم ومع التاريخ، متمثِّلاً في وحيٍّ سماويٍّ عالميٍّ وإنساني، فشرع في هدم مظاهر الجاهلية في عالم الأشياء والأشخاص ليؤسِّس عالَمَه الجديد، بإعادة صناعة الأشخاص الصِّناعة الرسالية الخالصة، إذ أضحى الإنسان حاملاً لتلك الأنوار الإلهية، بانِيًّا عالَمًا ثقافيًّا جديدًا تتمحور فيه الأشياء والأشخاص على الأفكار، كعقائد علوية وتصوُّرات صحيحة عن الله والكون والإنسان والحياة.
لذلك حرص التصوُّر الإسلامي على تجريد الأفكار، ونقلها من عالم المادة والأشخاص إلى عالم المُثُل والقيم، ومن أمثلة ذلك، كما يذكرها مالك بن نبي: تقسيم التركة على الورثة، في قوله تعالى: “وإذا حَضَر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه..” (النساء:08)، فالقرآن لا يتوقَّف عند هذا القانون المدني التقدُّمي، كسلوكٍ استهلاكيٍّ في توزيع المال كآلاتٍ نقدية مادية، بل يرتقي إلى ما هو أسمى، وهو توزيع الخير أيضًا كسلوكٍ حضاري وبُعدٍ فكريٍّ، ولذلك خُتمت الآية بقوله تعالى: “.. وقولوا لهم قولاً معروفًا..”(النساء: 08)، وهي لفتةٌ قرآنية للانتقال من عالم الأشياء (المال) إلى عالم الأفكار (الخير) كشعورٍ إنسانيٍّ حضاري.
ويرى بأنَّ النُّضج الحضاري للإنسان مثل اندماج الطفل في المجتمع، يمرُّ بأعمارٍ ثلاثةٍ نحو عالم الأفكار، وهي:
1 / العمر الذي يكتشف فيه عالم الأشياء تلقائيًّا، وهو يلعب بجوارحه ويستعمل حواسه للتعاطي مع المحيط.
2 / العمر الذي يكتشف فيه عالم الأشخاص، وهو يتعرَّف على أقرب الناس إليه في الأسرة والمدرسة.
3 / العمر الذي يكتشف فيه عالم الأفكار، إذ يتمكَّن من تكوين الروابط الشَّخصية مع المفاهيم التجريدية.
ولذلك فإنَّ الانتكاسة في السُّلَّم الحضاري تقع عندما ينحدر الإنسان من عالَم الأفكار إلى عالم الأشخاص أو عالَم الأشياء، وقد جاء في المثَل الصِّيني: “العقول الكبيرة تناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تناقش الأحداث (الأشخاص)، والعقول الصَّغيرة تناقش الأشياء (المادة)”، وهو ما يعني أنَّ أيَّ جماعةٍ أو مجتمعٍ أو دولةٍ يدور فيها عالَم الأفكار حول محور الأشخاص أو محور الأشياء فهي في حالة انحطاطٍ وإفلاس، وهو ما يضرُّ بالفكرة مهما كانت سامية، ثمَّ يتأصَّل هذا الاختلالُ بشكلٍ أساسيٍّ عندما تكون سلطة الشَّخص أقوى في التأثير والاستقطاب من سلطة الفكرة، حتى تكون الفكرة مرتهنةٌ بالشَّخص، فيستحوذ لصالحه على الروابط القدسية لها، وهو ما يولِّد الشُّعور بتضخُّم الأنا وجنون العظمة واستبداد النرجسية، فلا يلبث أن ينتظر من الجماهير أن تهتف به كزعيمٍ مُلهمٍ موهوب، كأنه وحيد زمانه وفريد عصره، فيقع الانتقال من العلاقة المقدَّسة بالأفكار إلى العلاقة الخرافية بالزَّعيم، وهي نفسُ علاقة العرب في الجاهلية، إذْ انحدرت من العلاقة بالأفكار إلى العلاقة بالأوثان.
لقد سعى الإسلام إلى “الأفكار المجرَّدة” والتحرُّر من “الأفكار المجسَّدة”، ليسمو بها فوق حدود الزَّمان والمكان والإنسان، كقانونٍ مجرَّدٍ عن حمولة الأثقال الثقافية أو التاريخية أو الإيديولوجية، وهو ما تشير إليه الغاية الكبرى من القصص القرآني المرتبط بالأشياء (المكان) أو الأشخاص (الإنسان)، فيكون المقصد منه هو “العبرة” كقانونٍ ثابتٍ ومطَّرد ومجرَّد، كما قال تعالى: “لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الأبصار”(يوسف:111)، أو يرتقي هذا القصص (التاريخ) من عالم الأشياء (الأرقام والتواريخ) وعالم الأشخاص (أبطال الأحداث) إلى عالم الأفكار، كما قال تعالى: “فاقصص القصص لعلهم يتفكَّرون” (الأعراف:176)، يقول مالك بن نبي في التفريق بين ذلك: “إننا عندما نربط الأفكار بالأشخاص نُحرَم من الفكرة الجيِّدة عندما تأتي من عدو، ونتورَّط في الفكرة السَّخيفة عندما تأتي من صديق..”، ولذلك فإنَّ قراءة الأفكار بهذه الرُّوح النقدية هي التي تقرِّبنا أكثر من الحقيقة.
لقد تجسد الإبداع النبوي في صناعة رجال الحضارة والفكر عمليًّا في لحظة الصِّراع بين عالَم الأشخاص وعالَم الأفكار لحظة صدمة وفاته صلى الله عليه وسلَّم، عندما التبست عندهم الفكرة المجرَّدة عن النبي القائد بالفكرة المجسَّدة فيه، إلى أنْ قام الصِّدِّيق رضي الله عنه -وهو الأقرب إلى التماهي في صحبته- فقال: “مَن كان يعبد محمَّدًا فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت”، ثمَّ تَلَا قول الله تعالى: “وما محمَّدٌ إلا رسولٌ قد خَلَت من قبله الرُّسُل، أفإنْ مات أو قُتِل انقلبتم على أعقابكم..” (آل عمران:144).

  يقول مالك بن نبي في التفريق بين ذلك: “إننا عندما نربط الأفكار بالأشخاص نُحرَم من الفكرة الجيِّدة عندما تأتي من عدو، ونتورَّط في الفكرة السَّخيفة عندما تأتي من صديق..”، ولذلك فإنَّ قراءة الأفكار بهذه الرُّوح النقدية هي التي تقرِّبنا أكثر من الحقيقة.

إنَّ تقديس الأشخاص هو نوعٌ من الوثنية المنافية لسلامة الطريق وصحة السُّلوك وصفاء التوحيد، وقد قال صلى الله عليه وسلَّم عن نفسه: “لا تَطْرُوني كما أطْرَت النَّصارى عيسى بنَ مريم..”، إذْ أنَّ صناعة الطغاة المستبدّين والزُّعماء الوهميين والقادة النَّرجسيين يمرُّ حتمًا عبر بوابة “شخْصَنة الأفكار”، والتي ستنتهي لا محالة إلى تشَيُّءِ الأفكار، وانتهائها بمجرد مغادرة أصحابها لمواقعهم أو لحظة وفاتهم، وقد قال الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: “الحقُّ لا يُعرف بالرِّجال، ولكن الرِّجال هم الذين يُعرفون بالحقِّ”، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “مَن كان مُسْتَنًا فليَسْتَنَّ بمَن مات، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمن عليه الفتنة”.
والمشكلة ليست في اتخاذ الرُّموز قدواتٍ عملية، فتلك من هدايات السَّماء، وتلك حاجةٌ فطريةٌ في الاهتداء والاقتداء، كما قال تعالى: “وجعلنا منهم أئمةً يهدون بأمرنا لمَّا صبروا..” (السجدة:24)، إلاَّ أنَّ الآية دقَّقت في الحدود الفاصلة بين “الشَّخص” و”الفكرة” لمَّا أكَّدت بأنهم “يَهدُون بأمرنا”، وأنهم في حالة نكرانٍ للذات “لمَّا صبروا”، وأنَّ الخطر في شخْصنة الفكرة في الرَّمز، فيصير هو مركزية الفكرة ومصدرها، فلا يتعامل معها الأتباع ولا يستوعبونها إلاَّ بالنظر إليه، فيصير معيار صوابيتها هو “الشَّخص” القائل، وليس ميزان الحق والعقل في “القول”، فتنتقل الفكرة من فكرةٍ مجرَّدةٍ خالصةٍ إلى فكرةٍ مجسَّدةٍ في بشر، يقول مالك بن نبي: “لكن طغيان الشَّخص يؤدِّي إلى نتائج في الإطار السِّياسي والاجتماعي تهدم بنيان الفكرة حينما تتجسَّد فيه”، ويقول: “إنَّ خطر التجسيد قد وضعه القرآن صراحةً في الوعي الإسلامي بقوله: “وما محمدٌ إلاَّ رسولٌ قد خَلَت من قبله الرُّسل، أفإنْ مات أو قُتل انقبلتم على أعقابكم”، وهذا التحذير ليس موجَّهًا هنا إلى خطأٍ أو انحرافٍ مستحيلٍ من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه من أجل الإشارة إلى خطر تجسيد الأفكار بحدِّ ذاته”.
إلا أنَّ التحذير من مرض الشَّخْصنة، باختزال الأفكار في الأشخاص لا يعدم قيمة الرُّموز وحاجة الأجيال الفطرية إلى الاقتداء بها، وذلك بالتمييز بين “الفكرة الإسلامية المعصومة” وبين “الأشخاص غير المعصومين”، فلئن نزلوا عن مرتبة التقديس فإنهم لن يسقطوا عن مرتبة الاحترام، وقد قال صلى الله عليه وسلَّم: “ليس منَّا مَن لم يرحم صغيرنا، ويوقِّر كبيرنا، ويعرف لعالِمِنا حقَّه”.
ولئن رفعنا من قيمة “الأفكار” إلى مرتبة التقديس فإنها لن تسمو فوق القابلية للتجديد والتطوير، وقد قال صلى الله عليه وسلَّم: “إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سَنة مَن يجدِّد لها أمْرَ دينها”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!