-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تأسيس المقاربة بالأهداف

خير الدين هني
  • 1609
  • 0
تأسيس المقاربة بالأهداف

حينما تناولت نموذج التعليم بالمضامين في المبحث السابق، كنت قد انتهيت إلى أن هذا النموذج كان يركز على المعرفة النظرية الصرفة، من غير أهداف واضحة ذات معالم دقيقة تنتهي عندها مخرجات التعليم ومراميه، مما جعل المتخرجين من مؤسسات التربية والتعليم يواجهون مشكلات عميقة في عدم القدرة على الاندماج ضمن سوق الوظيفة والشغل بالنجاعة والمردودية المنشودتين، وهذا ما وقف عليه مؤسسو نموذج التعليم الهادف بعد تأسيس نظريات التعلّم الشهيرة، إذ رأوا الثغرة كبيرة بين ما تقدمه المدرسة من معارف نظرية، وبين الحاجات الاجتماعية والوظيفية التي تتطلبها الحياة الواقعية ذات الصبغة الكسبية، فالمعرفة النظرية إطار يتوافق مع المثل والأفكار السامية ذات الطابع التجريدي، والحياة لا تفيدها الأفكار المثالية التي لها صبغة خيالية، وإنما تساوقها الأعمال التطبيقية ذات النزعة العملية والوظيفية.

وكانت الضغوط الاجتماعية المتزايدة، تُلّح على السياسيين والعلماء ليقدّموا بدائلَ في علوم التربية والنفس، لمعالجة أوضاع التربية التي كانت نتائجُها لا تساير التطور التكنولوجي المتسارع، إذ عرفت العلوم التقنية ازدهارا كبيرا في شتى الحقول التي تدخل ضمن اختصاصها، وقد برز أربعة مفكرين تربويين ونفسانيين كبار على التوالي، أعلنوا ثورة عارمة على الأساليب الكلاسيكية لعلوم التربية والنفس، وما يرتبط بهما من  المناهج والطرائق ونظم التقويم والقياس، فكان لهم الفضلُ الكبير في صياغة نموذج التعليم بالأهداف، كل واحد منهم تناوله من وجهة نظره التخصُّصية، وقد أبدعوا في تقديم بدائل ثورية غيَّرت وجه التربية والتعليم تغييرا جذريا، في فلسفة التأسيس والتدريس والتقنيات والأهداف والمرامي ونظم القياس والتقويم، والأبعاد التي تدعو إليها الاحتياجاتُ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

  1. بوبيت: ظهرت أفكار بوبيت بعد الحرب العالمية الأولى، كثورة تقدمية على الأفكار القديمة التي كانت سائدة ومسيطرة على النظم التربوية، فقد لمس بنفسه ما كان يسفر عليه النظام التعليمي في زمانه، إذ كان يقذف جيوشا من المتخرّجين الفاشلين إلى الحياة العملية بدون فعالية ونجاعة ومردودية، وفي عام 1918 أعلن ثورته على الأساليب التقليدية في بناء المناهج والطرائق التي كانت تعتمد على الخيال في تصوُّر أوضاع التربية ومشكلاتها المنبثقة من عالم سامي بالمُثل النظرية الطوباوية، كانت تحكمه القيم الخيالية السائدة، وليس الواقعية التي تستدعيها البراغماتية في سوق العمل والوظيفة. (تساوق النظري مع التطبيقي).

لقد كان المتخرجون المتدرِّبون على النظري، يصطدمون بواقع الوظيفة حين يوجَّهون إلى القطاع الصناعي والفلاحي والحِرفي، فيواجهون مشكلات التسيير التي تستدعي ربط النظري بالتطبيقي، مما يجعل المشرفين يعيدون رسكلتهم (تأهيلهم) بتدريب جديد، فينفقون مزيدا من المال والجهد والوقت، لذلك رأى (بوبيت) الفجوة عميقة بين نظام التعليم في المدارس العامة، وبين القطاع الصناعي في الفعالية والنجاعة والمردودية. ورأى –أيضا- بأن المدرسة يقع على عاتقها بناء مناهج تراعي الثنائية النظرية والعملية، كي تستجيب مضامينُها لسوق العمل، وتلبي احتياجات المجتمع والدولة.

ولكي تحقق هذه الأهداف أوجب (بوبيت) على المدرس أن يكون بمثابة التقني أو الخبير الذي يحوّل الخبرات التعليمية إلى وظائف سلوكية يظهر أثرُها في السلوك العملي والصناعي.

  1. رالف تيلر: إذا كان (بوبيت) له فضل السبق في إعلان ثورته على الأساليب القديمة التي كلّسها الجمود، حتى غدت غير قادرة على مواكبة التطوُّر الفني والتقني، وتلبي احتياجات المجتمع، وقدَّم تصوُّرا دقيقا لتكْنَجة التعليم اقتداء بالقطاع الصناعي في الفعالية والمردودية، فإن (تيلر) له الفضل في وضع فلسفة التعليم بالأهداف، لقد وضع هذا النموذج في كتابه الشهير الذي نشره عام 1949. وذهب الخبير الإسباني (ساكريستان) سنة 1989 إلى أن صنافة (تيلر) في بناء المنهاج أصبحت مرجعا أساسيا يعتمده الباحثون، إذ إن الأهداف وقيمتَها التعليمية أضحت تشكِّل نقطة الارتكاز في نظريته المنهجية. وإذا كان (بوبيت) قدَّم نموذجا غير متكامل، فإن (تيلر) قدَّم نموذجا متكاملا إذ اعتبر الأهداف مكوِّنا أساسيا في نموذجه المقترح.

وبما أن (تيلر) كان عالما سلوكيا، فإنه اعتبر الخلفية السلوكية أساسا سيكولوجيا في التدريس بالأهداف. لذلك دعا إلى تجزئة الأهداف من العامِّ إلى الخاص، وصياغتها صياغة إجرائية (عملية وظيفية) بدقَّة ووضوح، كيما تحقق الغاية الوظيفية. وقد حدد المصادر التي تصاغ منها الأهداف العامة، وهي: الحاجات الاجتماعية والبيئة المدرسية ومحتويات المواد.

  1. بلوم: كان (تيلر) -كما تقدّم- هو أول من وضع إستراتيجية التعليم بالأهداف، تقوم على الفعالية والنجاعة والمردودية، كانت هذه الإستراتيجية هي أول ثورة قامت في الولايات المتحدة تدعو إلى تجديد نُظم التعليم والتدريس والقياس والتقويم وتحديث أساليب التربية ومعايير العمل وتقنياته ضمن هذه الفترة 1949 التي كانت حاسمة ومحتدمة بالصراع الأيديولوجي مع السوفييت في حربهما الباردة والتسابق نحو التسلح والظفر بالسبق إلى غزو الفضاء.

ظهر (بلوم) وجماعتُه من تلاميذ (تيلر) كثوريين تربويين، وعقدوا مؤتمرا للجمعية الأمريكية للسيكولوجيا، بحثوا فيه الأوضاع التي كان يتمُّ فيها الإعدادُ للامتحانات، بتلك الأساليب غير المجدية في أساليب التقويم، التي برهن الواقع على أنها غير مسايرة للحياة الوظيفية والمقاولاتية، وهي الحياة المعقدة التي انبثقت من التطوُّر الكبير الذي عرفته العلوم العقلية والتطبيقية في حقول المعرفة والتقنية والتكنولوجيا الصناعية، وما نتج عن ذلك من نهضة ثورية عرفها الاقتصادُ الأمريكي، بإنتاجه الغزير ونوعية السِّلع والبضائع والخدمات الممعيرة بمؤشّرات الفعالية والمردودية والجودة والإتقان، وما رافقه من التعطّش السياسي الكبير لنخبة الحكم، ممن كانوا يطمحون إلى السيطرة والهيمنة على السياسة الدولية، بعدما انتقل مركز الثقل الصناعي والاقتصادي والسياسي، من أوروبا العجوز إلى هذا البلد الناهض بعد الحرب العالمية الثانية.

كل ذلك شكل احتياجات سياسية واجتماعية متزايدة، ما جعل نواتج التربية في ذلك الحين، لا تلبي الطلب المتزايد لهذه الاحتياجات، مثلما هو واقع الحال عندنا اليوم. انطلق بلوم من النهاية التي انتهى إليها (تيلر)، وهي الأهداف التعليمية من موقع (ديداكتيكيي)، بتوجيه الاهتمام إلى مشكلات التقويم والامتحانات وفعاليتهما.

كان (تيلر) هو أول من وضع إستراتيجية التعليم بالأهداف، تقوم على الفعالية والنجاعة والمردودية، كانت هذه الإستراتيجية هي أول ثورة قامت في الولايات المتحدة تدعو إلى تجديد نُظم التعليم والتدريس والقياس والتقويم وتحديث أساليب التربية ومعايير العمل وتقنياته ضمن هذه الفترة 1949 التي كانت حاسمة ومحتدمة بالصراع الأيديولوجي مع السوفييت في حربهما الباردة والتسابق نحو التسلح والظفر بالسبق إلى غزو الفضاء.

في عام 1951، وبعد ثلاث سنوات من البحث والاستقصاء، توصل الفريق إلى صياغة نموذج من الأسئلة وجِّهت إلى المعلمين والأساتذة في الميدان لغربلتها وإثرائها بالإضافات والملاحظات،  وحين استلم بلوم وفريقُه الاقتراحات قاموا بتحليلها ودراستها وأخذ المقترحات المفيدة وضمُّوها إلى نموذجهم، كيما تصبح الدراسة مستوفية الشرائط الأكاديمية والميدانية، ثم صاغوا الجزء الأول من المصنَّف الذي عُرف بصنافة (بلوم) في الأهداف التربوية ضمن المجال المعرفي، وقد نُشر عام 1956. ونال هذا النموذج شهرة واسعة في الأوساط التعليمية في العالم، ومع ذلك وُجِّهت إليه انتقادات، لكونه لم يتضمن الأهداف الإجرائية (السلوكية الوظيفية) وقد اعتمد في أروبا في ستينيات القرن الماضي، وبالجزائر اعتُمد في بداية التسعينيات ارتجاليا، بالتسمية الشكلية من غير تغيير المناهج والطرائق والوثائق والكتب المدرسية.

4.كانيي: كان نموذج بلوم يقوم على التصنيف المحض للسلوك الإنساني، الذي كان يعدّ من مخرجات التعليم الأساسية، من غير نظر إلى النظريات السيكولوجية التي تساعد المتعلمين على تحصيل السلوك الإنساني وتبيينه، لأنّ تصوّره للعملية كان من وجهة نظر ديداكتيكية محضة، وكانت هذه الثغرة هي التي أخذت عليه، وهذا ما أدركه كانيي حينما اقترح نموذجه فيما بعد، وساعده على ذلك كونه كان عالما سيكولوجيا، لذلك انطلق من السيكولوجيا العامّة التي تراعي فنيات التعلّم وظروفه، وقد اتخذها قاعدة لأغراض صنافية، فاستغلها في تجديد الأهداف وتصنيفها بما يستجيب لرغبات المتعلّمين، وخواص الأنشطة التعليمة وحاجات المجتمع.

كان الفرقُ بين النموذجين يكمن في كون بلوم كان مربِّيا براغماتيا، يتوخّى النتيجة العاجلة، على حين كان كانيي عالم نفس، يتحرّى الدقة العلمية التي تبحث في الأسس التي تساعد المتعلمين على التحصيل الجيّد. وبهذه الدراسة نخلص إلى أن المقاربات التعليمية، كانت تراكمية تطوُّرية تسير عبر سيرورة زمنية، تحرِّكها دينامية التجديد التي تستدعيها حياة الإنسان، أما الجمود والركود فلا أفُق لهما سوى النظر عبر المرآة العاكسة للماضي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!