-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ثراء الفقراء

عمار يزلي
  • 1619
  • 0
ثراء الفقراء

ستون سنة مرت على اندلاع الثورة التحريرية المجيدة، وعلى انبثاق أول جمهورية جزائرية مستقلة عن كل الأشكال الحمائية والاحتلالية. ستون سنة، وقد أنجزت الدولة الوطنية الكثير وبقي الكثير لم ينجر، على الأقل على مستوى أحلام الكثير من الناس.

خلال ستين سنة، عرفت الثورة كثيرا من الانجازات وكثيرا من الإخفاقات أيضا. كما عرفت الجزائر بعد الاستقلال تنمية غير مسبوقة، لكن هذا لم يشفع لها أن تخللتها كثير من مفاصل الفساد والإخفاقات الإصلاحية السياسية والاقتصادية.

نمت على ذكرى إحياء هذه السنة للذكرى الستين لاندلاع الثورة التحريرية، لأجد نفسي من بين هؤلاء الذين لم يروا نور الاستقلال بعد! من بين القليل من الكثير الذين لا يزالون يعيشون في توالكهوف ويحلمون بيوم جديد بعد أكثر من  50 سنة على الاستقلال.

ولدت يوم فاتح نوفمبر 54! تقول لي أمي أنك ولدت “فارسيا” أي على أرجلي! ولهذا أنا اليوم أتحدث عن “مسقط أرجلي” وليس “مسقط رأسي”! ومنذ أن ولدت وأنا واقف! توفيت عائلتي كلها أثناء الثورة وبقيت أنا وحدي من بين كل إخوتي وأخواتي! مشردا لدى الجيران! تربيت بين الكلاب والماعز والتيوس والبقر وصوت الرصاص وصراخ الأطفال والنساء كلما دخل العسكر ليعيثوا في البيت وفي القرية فسادا!

ترعرعت وتربيت لدى الجيران! عرفت النوم على الأرض وفي العراء وفي البرد والقر والحر. لم أعرف يوما جميلا طيلة 7 سنوات من الحرب المدمرة التي شردت الناس وأعادتهم إلى عهد المغارات والكهوف! نمت مع ذئبة بجرائها ليلة كاملة هروبا من القصف العشوائي على قريتنا المدمرة أصلا! لم أر يوما ذئبة بجرائها ترحب بنا في وجرها رغم شراسة الذئاب خاصة الإناث إذا كانت بجرائها! عرفت كل أشكال المعاناة وكأنها لعنة أمي على أخي الأكبر الذي كان أول من استشهد عندما كانت تقول له كلما خرج من البيت بحثا عن العمل في الحقل: روح ياولدي.. إذا من السماء تجيك، وإذا من الأرض تجيك!” (تقصد بها “الخبزة” طبعا!)، لكن بعدما شاهدنا من دمار ووحشية الاستعمار وحرق الغابات بالنار والنابالم، فهمت أن الدعاء كان لعنة! “الطائرة تقصف من فوق، والقنابل المزروعة في الأرض، من تحت!”! هذه هي الخبزة! الحمد لله أن أخوتي وأبي قد من الله عليهم بخبزة الشهادة وماتوا لأجل القضية ولأجل البلد!. لكن لا أحد انتبه إليهم أو سجلهم أو حتى أعترف بهم شهداء! لأنهم ماتوا في مغارة مخنوقين بالغاز السام. حاولت لكن لم ألح لفقري. ولا أحد عرف عنهم شيئا. وماتوا وانتهى الأمر! كنت أنا الناجي الوحيد، وليتي لم أنج! لأني ساعتها كنت عند أمي في البيت التي ستموت بعد أشهر متأثرة بشظية هاوون!

بعد الاستقلال، وجدت نفسي راعيا! راعيا لبعض الخراف التي لم تكن لي، وإنما للعائلة التي تكفلت بتربيتي مع البقر! 3 نعاج وكبش وخروفين تحت رعايتي السامية! مقابل الأكل والمأوى! لم أدخل المدرسة يوما واحدا! كل ما فعلته أني تعلمت القراءة والكتابة بمفردي وفي بعض الأيام بالكتاب القريب. حفظت ربع القرآن دون أن أدخل الجامع وتعلمت القراءة والكتابة مع الغنم في الحقل. بقيت طوال عشرين سنة راعيا بامتياز! ازدادت رعايتي السامية للأغنام، فأضيف لي البقر والحمير والعجول مقابل إضافة الكسوة كل عيد والحمام كل شهر! الحمد لله عشت خانزا، عاريا أمام القليل من الناس الذي سرعان ما تطاولوا في البنيان. أنا لم أسكن يوما بيتا بالإسمنت! إلى اليوم! بيتي لا يزال من حجر وطوب وأنا في عمري الآن 60 سنة! لم أتزوج! باش؟ بزبل الماعز؟ فضلت أن أتقاسم همي وبؤسي مع نفسي ولا أحمل فقري لأبنائي!

بقيت 20 سنة بعد الاستقلال أرعى أغنام العائلة التي ربتني! بعد ذلك، قلت أسافر إلى فرنسا لأعمل مع العاملين هناك! لكني لم أفلح! بقيت في ليون ثلاثة أشهر ثم عدن بيد مقطوعة وبلا فلس! ماذا أعمل بيد مقطوعة؟ عملت لأشهر لدى جزار! أسلخ الغنم فقط! لأن يدي المقطوعة كانت تشكل آلة جيدة للسلخ!. لكن هذا لا يفيد! الجزار يذبح خروفا كل ثلاثة أيام! مقابل أجر لا يكفي حتى لشراء كيلو سكر!. بقيت أعمل حمالا، نقالا، بدالا، كناسا، سواقا، برداعا، نشاش ذباب، منظفا عند حلاق! كل مرة في مهنة! تعلمت كل المهن المهانة والهينة والمهينة، وبقيت أنا كما كنت! “ألف مهنة بألف تعاسة” كما يقال!


واليوم، عمري 60 سنة وقد جمعت منذ ما يقارب 15 سنة نحو 60 مليون سنتيم! الكثير منها أعطيت لي صدقات وزكاة من الفقراء الذي عادة ما يبكيكم حال الفقير مثلي! أما ألأغنياء فلا درهم رأيت من عندهم ولا فلس! رغم أنهم صاروا أكثر عدد من الفقراء! ولست أدري والله كيف فعلوا! في 10 سنوات، صاروا يحسبون المال بالشكاير التي كانوا يحسبون بها قناطر القمح والزرع لما كانوا خماسين عند أسيادهم الذي صاروا أكثر فقر مني!. قلت أشتري سيارة أبيع الحوت وكرات “الفوت” والهواتف نتاع البلوتوت، والأدوات المدرسية التي لا تسبب الموت، وكل ما هب ودب من أنواع الكاسكروت. لكن جاءت عاشورا وكان علي أن أخرج لأول مرة الزكاة! وفكرت أول ما فكرت في الأغنياء من حولي ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ بدأت بهم! أدخلت خلسة “سانميل” في يد أكبر ملياردير نتاع الكيف: خد والله غير تديها باش تتقهوى! (الرجل حل عينيه وطاح بكريز كاردياك ومات!).ثم أعطيت قدام المصلين “طروا ميل سانك” للمير الفاحش الثراء:”والله غير تديها حلوة للأولاد باش تسكتهم! رماها تحت رجليه وراح يكفر ويزعق ويزبد ويرعد! وفي الغد لقي الله !(تهنية منهم!)

وهكذا، جبت لهم الرقاد واحدا واحدا بمناسبة الذكرى 60 للثورة وبمناسبة عاشوراء ونهاية السنة الهجرية وقريبا الميلادية..في انتظار أن ألقى الله فقيرا إليه!

وأفيق وأنا أحسب الديون التي علي..! كل جهة تسال! حتى الشاب خالد كان قدامي في المذياع ينهق: على الزرقة راني نسال…(يقصد ورقة دي ميل!)

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!