-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جدل الحضارة والثقافة

التهامي مجوري
  • 556
  • 0
جدل الحضارة والثقافة

يرى الأستاذ علي عزت بيغوفيتش، أن “كل ثقافة مؤمنة”، و”كل حضارة كافرة”. وهذا الكلام على ما فيه من مجازفة وإطلاقية متسرِّعة فيما يبدو، يعبِّر عن عمق فلسفي دقيق لطبيعة كل من الحضارة والثقافة، “فالثقافة هي تأثير الدين على الإنسان أو تأثير الإنسان على نفسه، بينما الحضارة فهي تأثير الذكاء على الطبيعة أو العالم الخارجي. على اعتبار أن الثقافة هي الفن الذي يكون به الإنسان إنسانا، أما الحضارة فتعني فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة، كما أن الثقافة هي الخَلق المستمر للذات أما الحضارة فهي التغيير المستمر للعالم” [علي عزت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب 94/95].

الحضارة إذن تعبّر بطبيعتها عن الجانب المادي من الحياة، وهو الظاهر من السلوك الإنساني المختزل في تفاعله مع الطبيعة، أما الثقافة فتعبّر عن الأمور غير المادية في حياة الإنسان، لأن مكوناتها كلها لها علاقة بالمشاعر والغيب، والروح، وهي الفن والجمال والذوق والأخلاق.

وعالم المادة الذي غلُب على ظاهر الحضارة والمعبّر عنها، يعبّر من جهة أخرى في عمقه عن روح إلحادية بالضرورة أو على الأقل هذا هو أظهر ما في المادية من الإلحاد والإفراط في الذاتية والتعلق بالمادة وطلبها لذّاتها.

وكذلك ارتباط الثقافة بالجانب المعنوي من الإنسان وغير المادي، فيعبّر عن مظهر من مظاهر الإيمان؛ لأن جوهر الإيمان تعلق بالغيب وتمسّك بغير المادي الظاهرة والملموسة.

ولا أظن أن علي عزت بيغوفيتش، قصد وصف كل حضارة بالكفر بإطلاق أو كل ثقافة بالإيمان بإطلاق، وإنما قصد فيما يبدو من التوجّهات المادية بذلك؛ لأن الحضارة المعاصرة مبناها على المادية، وقد اتّسمت بالمادية الملحدة، التي أعلنت عن موت الإله استغناء عن الوحي والنبوة والدين؛ امتدادا كما يرى بيغوفيتش إلى الداروينية التي تحيِّد مبدأ الخَلْق الذي جاءت به جميع الديانات السماوية، وتقف عند الانتخاب الطبيعي والتطور والتكيف وما ينبني عن ذلك من خلاصات علمية، إذ يشعر الباحث وكأنه يرى في قوانين الوجود قوة ذاتية تدفع بنفسها إلى نهايات معلومة لا سلطان لغيرها عليها، خالقا كان أو مخلوقا.

وما يقال في الحضارة يقال أيضا في الثقافة، فهو لا يقصد أن كل ثقافة مؤمنة الإيمان الذي يعرفه الأستاذ في إطار ما يَعْرِف من ديانات سماوية ووضعية، وإنما يقصد أن الثقافة باعتبارها نشاطا غير مادي للإنسان، هي مؤمنة بما وراء المادة، ومن ثم لا يعني بالضرورة أن هذا الإيمان، إيمانٌ صحيح أم إيمان فاسد، وكذلك لا يعني رد الكلام عن الحضارة وإيجابياتها في هذا الإطار، وربما كانت عبارته للكشف عن جوهر الحضارة المادي ولو كانت في إطار إيماني، وعن جوهر الثقافة ولو كانت في إطار إلحادي، لما يتَّسمان به من مادية وغير مادية لكل منهما.

وإذا استبعدنا المصطلحين الشرعيين: الإيمان والكفر، فإنَّ الطبيعة المادية للحضارة ظاهرة والحقيقة غير المادية للثقافة واضحة أيضا.. ولذلك وجدنا اليسار الذي يعتبر من أكثر المدارس تطرفا إلحادا ومادية، ومع ذلك فإن وسائله النضالية غير المادية من أهم انتاجاته الإبداعية مثل الرواية والمسرح وغير ذلك من الأنشطة الثقافية غير المادية؛ لأن طبيعة الثقافة هي الأكثر تسللا للنفس البشرية وتأثيرا فيها، وهي غير مادية وإن ناضلت من أجل المادة؛ لأن النشاط الثقافي يلامس الروح والمشاعر ذات البُعد غير المادي.

وقد عبَّر عن هذه المعاني بشكل أوضح وبجدّية مفرطة الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله، عندما قرر أنه لا يوجد في الواقع إلا مجتمع مؤمن أو مجتمع جاهلي؛ فالمجتمع المؤمن هو الذي آمن بقانون الله حاكما للوجود الإنساني، ومجتمع جاهلي رفض هذا القانون واستبدله بغيره، ومن ثم فإن المجتمع المؤمن هو المجتمع المتحضر، والمجتمع الجاهلي هو المجتمع المتخلف [سيد قطب، معالم في الطريق]، وفي ضوء هذا المفهوم عدّل سيد قطب رحمه عنوان أحد كتبه، الذي أعلن عنه قبل صدوره، عندما عزم على إصدار كتاب بعنوان: “نحو مجتمع إسلامي متحضر”، فعدّل العنوان وصدر تحت اسم “نحو مجتمع إسلامي”؛ لأن تبني الإسلام وأحكامه وحده كاف لنشأة مجتمع متحضر.

وهذا الكلام لا غبار عليه ابتداء؛ لأن الالتزام بالإسلام وأحكامه ينشئ مجتمعا متحضرا راقيا بالفعل، كما كان ذلك في الصدر الأول، ولكن المشكلة تحصل عندما ينزل مستوى الناس في الالتزام بأحكام الله، فيصلّون مثلا ويسرقون.. أو يصومون ويكذبون  ويعتدي بعضهم على بعض، ويظلم بعضهم بعضا، ومع ذلك يحجون ويذكرون الله كثيرا؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أقواما قال عنهم “تحقرون عبادتكم إلى عبادتهم، ولكنهم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حناجرهم”، بسبب ما دخل على تديُّنهم من أمور ليست منه.

وهنا تفترق الثقافة عن الحضارة، فيحافظ كل منهما على جوهره، فتأخذ الحضارة المعنى المادي، وتتّسم الثقافة باللامادية، كما عبَّر عنهما علي عزت بيغوفيتش بالإيمان والكفر؛ لأن ثقافة المتحضر غير ثقافة المتخلف.. فثقافة المتحضر تتسم بالفاعلية والنشاط والبعد عن التناقض والاهتمام بالشأن العامّ كما يهتم بقضاياه الشخصية يحرص عليها بمستوى عال من الحرص الذي لا يفرّق بين الخاص والعامّ.

بينما ثقافة المتخلف ثقافة متخلفة عن الركب، تغلب عليها الأنانية المفرطة التي تُفقد الفرد بُعده الجماعي الذي جُبل عليه، فيُحرم بركات الفعل الحضاري، فتغلب عليه الذاتية ولا يبالي بما بعُد عنه قليلا كان أو كثيرا.

والعلاقة بين الثقافة الحضارة، علاقة عضوية والأصل فيها ان تكون علاقة متناغمة، لا يضادّ بعضها البعض الآخر؛ لأن الثقافة في أصلها هي المنتَج المعرفي الذي تحوَّل إلى سلوك عبر الفعل التربوي الاجتماعي الذي تساهم فيه الأسرة والمدرسة والإعلام والخطاب السياسي والثقافي، وهذه المنظومة المعرفية التربوية السلوكية هي التي تنتج الحضارة، ومن ثمّ فإنّ الثقافة منتَجٌ معرفيٌّ تربوي تحوَّل إلى سلوك اجتماعي. أما الحضارة فهي ما تنتجه المعارف والقيم التي بثتها العملية التربوية في تفوُّق الأفراد، إذ يتحول التفوق إلى عرف عامّ يعم المجتمع فيتجاوز الأفراد إلى الجماعات في المجتمع الواحد.

الالتزام بالإسلام وأحكامه ينشئ مجتمعا متحضرا راقيا بالفعل، كما كان ذلك في الصدر الأول، ولكن المشكلة تحصل عندما ينزل مستوى الناس في الالتزام بأحكام الله، فيصلّون مثلا ويسرقون.. أو يصومون ويكذبون  ويعتدي بعضهم على بعض، ويظلم بعضهم بعضا، ومع ذلك يحجون ويذكرون الله كثيرا؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أقواما قال عنهم “تحقرون عبادتكم إلى عبادتهم، ولكنهم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حناجرهم”.

عندما ألّف مالك بن نبي رحمه الله كتابه “شروط النهضة” عرّف الحضارة في معادلته المعروفة بقوله: الإنسان + تراب + وقت = حضارة، فهذه العناصر الثلاثة عناصر تمثّل الظاهر من الحياة، القادرة على التفاعل فيما بينها، وعلى إظهار مستواها التفاعلي. والإنسان وحركته مادة، والتراب مادة والوقت مادة، وقد لفتت هذه العبارات ذات النزعة المادية انتباه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فاستبدل ثلاثية ابن نبي بثلاثية أخرى أقرب إلى اللامادية أطلق عليها “الإنسان والكون والحياة”، على اعتبار أن هذه الألفاظ قرآنية وليست مجرد خيار بشري [د. محمد سعيد رمضان البوطي، الحضارة الإنسانية في القرآن الكريم]، ولكن ابن نبي يبدو أنه شعر عند وضعه لتلك المعادلة بضرورة الانتباه إلى ما وراء المادة إلى جانب هذه المظاهر المادية، فأدخل الدينَ في المعادلة ولكن كملاحظة عامة، مستصحبا أثر المسيحية في الحضارة الغربية، حسب الدراسات التي اطَّلع عليها. ولما هاجر إلى القاهرة في سنة 1956 وأقام بها وشرع في ترجمة كتبه طُلِب منه توضيح موقع الدين في العملية، فأضاف فصلا جديدا لكتابه “شروط النهضة” بعنوان “الفكرة الدينية”، وهنا برز أثرُ الدين في البناء الحضاري، فأعطى للحضارة معناها الإنساني الروحي، واعتبر الدينَ هو العنصر المُكَثِّف أو المركِّب للعناصر المادية الثلاثة؛ بل اعتبر الدينَ في الحياة مثل الجاذبية في عالم المادة [مالك بن نبي، شروط النهضة]، إذ أعطى للحضارة بعدا آخر غير مادي كما هو مقرر في الطبيعة البشرية، التي ترفض المادية المحضة، ولذلك وجدنا في ما أنتج مالك بن نبي مفاهيم في بعض الأحيان لا تفصل بين الحضارة والثقافة لما بينهما من ارتباط عضوي لا ينفك أحد طرفيه عن الآخر؛ لأن الثقافة عند بن نبي “لا تضم في مفهومها الأفكار فحسب، وإنما تضم أشياء أعم من ذلك كثيراً، تخص أسلوب الحياة في مجتمع معين من ناحية، كما تخص السلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات الفرد في ذلك المجتمع من ناحية أخرى”، باعتبارها تمثل “التركيب العامّ لتراكيب جزئية أربعة هي: الأخلاق، والجمال، والمنطق العملي، والصناعة، وفي ضوء هذا الربط تصبح الثقافة نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة” [مالك بن نبي، مشكلة الثقافة].

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!