-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رأي في مسؤولية العلم والعلماء!

رأي في مسؤولية العلم والعلماء!

جورجيو باريزي Parisi عالم فيزيائي إيطالي، يبلغ من العمر 73 سنة، نال خلال شهر أكتوبر جائزة نوبل في الفيزياء لدراسته حول ما يعرف بـ”الأنظمة المعقدة”. ومن المعلوم أن باريزي يُعدّ سادس فيزيائي إيطالي يحصل على هذا الاستحقاق من بين 21 عالما إيطاليا فازوا بجائزة نوبل في مختلف فروعها منذ نشأتها. وكما عقّب أحدهم فجورجيو باريزي نال كل جوائز العالم في اختصاصه قبل هذا الشهر، ولم تنقصه سوى جائزة نوبل… وها قد اكتملت فرحته وفاز بها هذه السنة. إنه فخور بنيلها وهو يعمل في موطنه! دعنا نتعرف على بعض أفكاره بخصوص مسؤولية العلم والعلماء في هذا العصر.

لا تكنولوجيا دون تقدم العلوم البحتة

قدم جورجيو باريزي بإيطاليا يوم 22 أكتوبر أول محاضرة له بعد نيله الجائزة، وكانت مداخلته بعنوان “قيمة العلم” تحدث فيها عن مسؤولية العلم والعلماء وعن أبرز الدوافع التي تساعد العلماء على القيام بعملهم. يرى باريزي أنه لا يمكن أن يتقدم العلم دون تقدم العلوم البحتة، وهذا عكس ما يعتقده الكثيرون. فالسواد الأعظم من الناس يتصورون مثلا أن التكنولوجيا وابتكاراتها وأجهزتها هي نتيجة لجهود المهندسين التطبيقيين دون سواهم، ولا يرون في ذلك دورا للمنظّرين في مختلف الاختصاصات. والواقع أن عمل هؤلاء المنظّرين هو الركيزة الضامنة لما يأتي بعدها من إنجازات عملية نراها ونستعملها ونستفيد منها في حياتنا اليومية.

فالدراسات النظرية تجلب معها العديد من التطبيقات العملية التي غالبا ما تكون مفيدة للمجتمع. وبهذا الصدد يؤكد جورجيو باريزي أنه “ليس من الممكن التفكير في التطور التكنولوجي دون التقدم في العلوم البحتة”… رغم أن جهود المنظّرين تدفعها في المقام الأول السعادة التي يشعرون بها خلال أداء عملهم. يقول باريزي “العلم أشبه بالألغاز، وهو يحتاج إلى مساع وجهود جماعية وإلى التعاون بين جميع العلماء. ومن جهة أخرى، يلاحظ أن المجتمع أصبح يعتمد أكثر فأكثر على أعمال العلماء، وهذا ما يسهل على الباحثين الحصول على التمويلات اللازمة للقيام بعمل يستمتعون به إلى حدّ كبير!

وهكذا نلاحظ وجود ارتباط وثيق بين العلماء والمجتمع يؤدي إلى زيادة في ثقل المسؤولية الواقعة على عاتق العلماء. يجب أن يكون العلماء على دراية بدورهم الاجتماعي إذ هم بحاجة إلى بناء علاقة ثقة بينهم وبين المواطنين. ثم يعرب باريزي عن قلقه بشكل خاص بشأن الوضع الحالي: “إن الهيبة والثقة اللتين يتمتع بهما العلم آخذتان في التناقص. فهناك ميول نحو ‘مناهضة العلم’ صار ذا وزن في مجتمعنا”. ويضيف: “تنتشر هذه الأنماط من السلوكيات المناهضة للعلم جنبًا إلى جنب مع استهلاك المنتجات عالية التقنية. إن امتلاك هاتف ذكيّ -وهو يمثل قمة ما توصل إليه الإنجاز التكنولوجيي- لا يمنع صاحبه من الإدلاء بتصريحات مناهضة للعلم”.

ثم يحلّل باريزي الأسباب الكامنة وراء هذا الوضع الغريب، وينبّه إلى أن محاربة أي آفة تتطلب فهم جذورها العميقة. وفي هذا الشأن، يؤكد أن سلوك العلماء يميل إلى ‘التعجرف’ حين يطلبون من الجمهور ثقة غير مشروطة، ودون إظهار الحجج والبراهين فيما يقومون به. إنهم يقدمون العلم كمعرفة وحقيقة مطلقة، في حين يمكن فتح باب الخوض في مناقشتها في حال بعض المعارف. وهذا أمر سيئ جدا عندما يحدث في مواقف علمية لازالت غير مؤكدة.

المعتقدات المناهضة للعلم

يواصل باريزي نقده للعلماء عندما يخاطبون الجمهور وهم يسعون إلى الحصول على دعمه دون الاعتراف بحدودهم وحدود علمهم. ذلك هو أحد أسباب ظهور المعتقدات المناهضة للعلم. فعندما يقدّم كثير من العلماء أعمالهم فهم يُغفلون الإشارة إلى العمليات الوسيطة التي أدت إلى النتائج العلمية المبهرة فيُظهرون بذلك العلم كأنه من الأعمال السحرية : إذا جعلنا الجمهور ينظر للعلم على أنه نشاط أشبه بما يقوم به السحرة فكيف نعيب على هذا الجمهور إيمانه بأنواع أخرى من السحر؟!

ويرى صاحب جائزة نوبل أنه ينبغي الدفاع عن العلم ودعمه ليس فقط لتطبيقاته العملية في التكنولوجيا وغيرها، بل يجب الدفاع عنه أيضًا لقيمته الثقافية. ويلاحظ أن “العلم والثقافة ليسا شيئين منفصلين، بل هما وجهان لعملة واحدة”. ويضرب مثلا بجهاز مسرّع الجسيمات في الفيزياء الحديثة، منبها إلى أنه يتعيّن منحه نفس القيمة التي ننسبها إلى لوحة فنية أو إلى نحت من نحوت الفنانين. فهذا المسرع للجسيمات، لا بد من اعتباره -قبل أن يكون آلة يمكننا من خلالها تحقيق تقدم لافت في التكنولوجيات الحديثة- منتوجا ثقافيا يهدف إلى توسيع إدراكنا لمتاهات الطبيعة.

ويتابع المحاضر شرحه للعلاقة التي ينبغي أن تربط العلم بالثقافة قائلا: “إذا كنا بحاجة إلى تقديم العلم على أنه ثقافة، فنحن بحاجة إلى مساعدة المواطن على فهم الكيفية التي يشتغل بها العلم، وكيف نصل إلى الإجماع في هذا المجال. إن بلوغ الإجماع في علم معيّن هو بمثابة عملية ديمقراطية بين الأشخاص الذين يلمّون إلماما واسعا بذلك العلم”.

كما أشار باريزي إلى بعض أسباب عدم الثقة في الطرق العلمية: “كان الجميع يعتقد أن المستقبل سيكون أفضل من الحاضر. غير أننا نعيش الآن فترة من التشاؤم إزاء المستقبل”. ذلك أن لدينا أزمات مختلفة الأشكال: الأزمة الاقتصادية، وأزمة المناخ، ونهاية الموارد غير المتجددة، والمعمورة تعرف الكثير من الحروب التي لم تتوقف منذ الحرب العالمية الثانية، وما إلى ذلك من التوترات. ولذا فالثقة المرجوة في التقدم لم تعد صالحة اليوم، وأصبح الكثير من الناس يعتقدون أن الأجيال القادمة ستعيش حياة أسوأ من الأجيال الحالية رغم ما ينجزه التقدم العلمي يوما بعد يوم. أما باريزي فلا يعتقد أن كل هذه المخاوف مؤسّسة، على الرغم من أن بعضها مؤكد، لكنه واثق من أنه إذا استخدمنا العلم بشكل سليم فيمكننا وضع حدّ لهذه المخاوف”.

ولسوء الحظ، كان للعلم ميزة التقدم، غير أنه صار اليوم مسؤولا عن هذا التدهور الذي نشهده. ويدرك باريزي أن وقف هذا التدهور ليس بالأمر الهيّن، ولكن تغيير نظرتنا لمفهوم العلم يتطلب منا الشروع في إعادة النظر في الطريقة التي يتم تلقينه بها في المدرسة: إنه يتمّ تقديم العلم كحقيقة واقعة ومؤكدة، في حين أن العلم مسار متواصل لا ينبغي أن يتوقف. علينا أن نجعل الأطفال يدركون هذه الحقيقة وأن ندربهم على اكتشاف الأشياء بأنفسهم.

والخلاصة التي وصل إليها باريزي في التعامل ما العلم هي أن دور العلماء في هذا المجال دور مركزي: ما من شك أن جزءا من المسؤولية يقع على عاتق السياسيين في تقدم العلم؛ غير أنه ما لم يدفع العلماء إلى تغيير كيفية تدريس العلوم، وتغيير طريقة تقديمها للجمهور، فإنه من المؤكد أن لا أحد سيقوم بذلك في مكانهم. ولذا، يعتقد باريزي أن على العلماء مسؤولية ضخمة، ليس للمضي قدمًا بالعلم فحسب، بل لتحريكه في الاتجاه الصحيح. وإذا لم يتم ذلك، فلا يمكن لهؤلاء الزعم بأنهم برآء من هذا الخطأ الجسيم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!