-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عبد المالك مرتاض.. نجم هوى

محمد بوالروايح
  • 1150
  • 0
عبد المالك مرتاض.. نجم هوى

لست متخصصا في اللغة العربية وعلومها، ولكنني متيم بشعرها ونثرها وأدبها وأعكف على قراءة كل جديد يتناول قضايا اللغة وإشكالاتها، وقد أشربت حب اللغة العربية منذ الصبا فقد كنت أقرأ لطه حسين والمنفلوطي وأقرأ المعلقات السبع وأغرف مما فيها من جمال النظم وبلاغة الكلمة ورافقت في حياتي لفيفا من الأدباء والشعراء الذين كنت أسمع منهم وأستمتع وأزود قاموسي اللغوي والأدبي بما ينثرونه من لآلئ لغوية ودرر شعرية ساعدتني كثيرا على صقل مواهبي اللغوية.
في الجزائر، على غرار كثير من الدول العربية، قمم شامخة في اللغة والأدب والشعر فهذا رضا حوحو الذي تمتعك رواياته وهذا محمد العيد آل خليفة الذي تدهشك أشعاره وهذا مفدي زكريا الذي تجلجل في سويداء القلب كلماته. وقد استمر العطاء والنماء والجمال والجلال في ميدان الأدب والشعر والنثر في جزائرنا في صورة علم من أعلامنا الذي يودعنا بعد مسيرة زاخرة يشهد بها القاصي والداني، مسيرة بدأها في تلمسان وامتدت آثارها ووصلت ثمارها إلى كل البلدان، قامة سامقة، تعرفها مجامع اللغة ومجالس النقد، إنه الأديب والناقد عبد المالك مرتاض الذي لا يجد كل دارس للغة والأدب والنقد بدا من الرجوع إلى كتبه التي تتميز بالدقة العلمية والرونق الأدبي والحس الشعري واللمسة النقدية التي يفتقد إليها كثيرون.
لا يشكك في مسيرة هذا الطود الشامخ إلا حاقد ولا ينكر جهوده في خدمة اللغة والأدب إلا مكابر فإذا كانت هذه الجهود تقاس بعدد المؤلفات فإن لعبد المالك مرتاض كما هائلا منها في مجال الرواية والقصة وطرائق النقد الأدبي ومدارسه، وإن كانت هذه الجهود تقاس بجودة المؤلفات، فإن مؤلفاته قد حازت الأفضلية في هذا الجانب بين نظيراتها بشهادة المختصين، وإن كانت هذه الجهود تقاس بجدة المؤلفات فإن مؤلفات عبد المالك مرتاض قد جمعت بين الأصالة والمعاصرة فهو من الرجال الأعلام الذين أسهموا في تطوير الخطاب اللغوي والأدبي تماشيا مع ما تفرضه المستجدات وما تمليه الضرورات لقد أبدع الدكتور عبد المالك مرتاض في مجال المقامات فقد كان موضوع رسالته لنيل الدكتوراه: “فن المقامات في الأدب العربي”، وحسبه فضلا على فن المقامات أنه من الأوائل الذين بسطوا قواعده ووضحوا مسالكه ويسروا فهمه على من تاهوا في بيداء المقامات ولم يهتدوا إلى منهج صائب ومناسب لدراستها والإلمام بها.
كتب عبد المالك مرتاض في فنون القصة والرواية ومناهج النقد، ومن مؤلفاته “نظرية الرواية” و”نظرية النص الأدبي” و”القصة الجزائرية المعاصرة”، وبحث في جذور الأدب الجزائري القديم في كتابه: “الأدب الجزائري القديم: دراسة في الجذور” وكتب في الأمثال والألغاز الشعبية الجزائرية ولم تقف كتابات عبد المالك مرتاض عند حدود القصة والرواية والأدب بل تعدتها إلى الكتابات السيميائية والمعاجم الشعرية كمعجمه: “معجم الشعراء الجزائريين في القرن العشرين”، وامتد عطاؤه وإبداعه إلى المجال المسرحي فكتب في البلاغة ونظام الخطاب القرآني. هذا غيض من فيض مما تركه عبد المالك مرتاض علاوة على ما كتبه من مقالات ينتقد فيها الراهن اللغوي والأدبي في الوطن العربي ويستنهض الهمم من أجل خدمة لغة الضاد التي حوصرت في عصر العولمة واتهمت بالقصور والجمود وعدت من قبل بعض الجاهلين لغة ميتة لا تتحقق بها نهضة ولا تنهض بها أمة. لقد وقف عبد المالك مرتاض في كثير من الملتقيات منافحا عن لغة الضاد، مدافعا عن أصالتها وريادتها ومبينا لمن جهل تاريخها بأنها سفر البداية ففي البدء كانت اللغة العربية التي رافقت الإنسانية في كل أطوارها وعاصرت كل الحضارات وغالبت كل العاديات وبقيت شامخة راسخة رغم المؤامرات التي استهدفتها والدسائس التي حيكت ضدها.
لقد ترك عبد المالك مرتاض ما يناهز سبعين كتابا في شتى الأجناس الأدبية والشعرية والمسرحية والروائية وكأن الرجل كان يصل ليله بنهاره وهو منكب على الكتابة لا يفتر، إنه مفخرة الجزائر والعالم العربي وعميد من أعمدة الجامعة الجزائرية التي لا تخلو مكتباتها من كتبه القيمة ودراساته النقدية الهادفة التي تمثل مرجعا للباحثين في أقسام اللغة العربية وآدابها.
إننا نحقر أعمالنا العلمية إلى أعمال عبد المالك مرتاض فقد استوينا معه في الأستاذية ولكن بيننا وبينه بون شاسع في العطاء العلمي فالأستاذية لا تمنح التميز فالتميز لا يناله إلا الذين أضافوا إلى الشهادة العلمية كفاءة ذاتية هي في الغالب الأعم فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده.
رحل عبد المالك مرتاض والكل راحل والكل حامل ومحمول كما قال الشاعر: فإذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم أنك بعدها محمول، هذا سنة الله في خلقه: “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”، (الرحمن 27). سيرحل الكل عن هذه الدنيا ولكن الراحلون صنفان اثنان: صنف يرحل ويترك أثرا علما يورثه لمن خلفه، وصنف يرحل ولا يترك أثرا فإذا مات انتهى ولذلك جاء في الحديث: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: .. وعلم ينتفع به”.(رواه مسلم من حديث أبي هريرة) ونحسب فقيدنا عبد المالك مرتاض من الصنف الأول الذي مات جسدا ولم يمت فكرا ففكره باق ينتقل بين الأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ترجل عبد المالك مرتاض فالضاد في حداد لأنها فقدت واحدا من فرسانها وعلما من أعلامها في زمن تتعرض فيه الضاد لهجمة شرسة من خصومها ممن يضيقون بها وبأهلهاَ. ترجل عبد المالك مرتاض بعد أن أبدع وأمتع وشنف أسماعنا في مسابقة “أمير الشعراء” بتحليلاته الصائبة وتوجيهاته القيمة. ترجل عبد المالك مرتاض وغادر عالمنا إلى العالم الآخر الذي سيلتحق به كل حي كما قال الشاعر: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول.
ترجل عبد المالك مرتاض الذي نافح عن اللغة العربية وعن تعريب الإدارة الجزائرية حينما كان رئيسا للمجلس الأعلى للغة العربية، المهمة التي تولاها بكل اقتدار جامعا بين فقه العالم وحنكة المسير إلى أن انتقل إلى وجهة أخرى فكان كالغيث حيثما وقع نفع. ترجل عبد المالك مرتاض بعد أن جال وصال في ساحات الفكر وواحات الأدب ومجالس الشعر، فقد كان لا يجلس مجلسا إلا زانه بسعة علمه واسألوا رواد نوادي قصر الثقافة والمكتبات العامة والخاصة يحدثونكم عنه فليس من رأى كمن سمع.
عبد المالك مرتاض نجم هوى بعد أن أضاء بأدبه ربوع الجزائر فله على الجزائريين حق واجب النفاذ، من حقه علينا أن نقيم مؤسسة تحمل اسمه وتهتم بفكره تكون مثابة للباحثين وقبلة للأدباء والشعراء من داخل الجزائر وخارجها فالعلم لا وطن له، ومن حقه على الجامعة الجزائرية وخاصة أقسام اللغة العربية وآدابها أن تؤسس جائزة دولية سنوية ” يكون عنوانها: “جائزة عبد المالك مرتاض للدراسات الأدبية والنقدية”، وأن تشجع الباحثين على الاهتمام بفكره وتراثه الأدبي والنقدي سواء في أبحاث التدرج أو مذكرات ورسائل التخرج، ومن حقه على الجزائريين أن يحتفوا بسيرته فإنما الأمة بعلمائها وعظمائها.
عبد المالك مرتاض موسوعة أدبية ونقدية كما أسلفت، وقد كان يحرض المشتغلين في حقل الدراسات الأدبية والنقدية على الاهتمام بكل الأجناس الأدبية والنقدية وألا يكتفوا بجنس واحد، كما صرح بذلك لإحدى الصحف الوطنية حينما سئل عن مواصفات الأديب الحقيقي فأجاب: “أعتقد أن الأديب الحق- ولست به على وجه الضرورة- هو من لا يقف جهده الفكري على جنس واحد من الأدب كأن يكون قاصا فقط أو ناقدا فقط أو روائيا فقط،بل الأديب الذي يطمح إلى سلوك طريق التميز ولو على هون ما، يركض في عوالم شتى”.
يؤمن عبد المالك مرتاض بأن للمقاومة الوطنية صورا متعددة ومنها المقاومة التي قادها الأدباء والشعراء والتي يسميها “أدب المقاومة” كما بين هذا في كتابه: “أدب المقاومة الوطنية في الجزائر (1830/1962): رصد لصور المقاومة في الشعر الجزائري”. في هذا الكتاب صورة أخرى للمقاومة الوطنية وهي المقاومة التي يقوم بها الشعراء في تعبيرهم عن نبض الجزائريين ونقلهم لمعاناتهم وكشفهم لحقيقة المحتلين الغاصبين فالشاعر المقاوم كالجندي المقاتل، كلاهما يؤدي دوره بحسب وظيفته وتلتقي جهودهما في النهاية في غاية واحدة وهي تحرير الوطن.
رحيل عبد المالك مرتاض ثلمة كبيرة ولكن لله ما أعطى ولله ما أخذ “وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”. ( البقرة 156 ). رحم الله عبد المالك مرتاض وجزاه عنا خير الجزاء وأنزله منازل الصالحين وجعله من الغر الميامين ومن ورثة جنة النعيم إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!