-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عقدة غزة

عامر أبو شباب
  • 211
  • 2
عقدة غزة
أرشيف

في 1988 بالجزائر، قدَّم الشاعر محمود درويش قصيدته “مديح الظل العالي”، ومنها: “إنَّ الصليب مجالُك الحيويُّ، مسراكَ الوحيدُ من الحصار إلى الحصارِ”، في إدراكٍ مبكر للنهايات أو بحثا عن انتصار ممكن بعد الانسحاب الإجباري من بيروت. حدث ذلك خلال مؤتمر تاريخي لبرلمان منظمة التحرير الفلسطينية، المجلس الوطني الفلسطيني، إذ أعلن الرئيس الراحل ياسر عرفات وثيقة الاستقلال وتبني حل الدولتين؛ دولة فلسطينية على حدود هزيمة 4 جوان 1967 بما يعادل 22% من فلسطين التاريخية، والباقي، 78% لإسرائيل؛ وهو ما أطلق عليه الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس “الحقُّ النسبي” بدلا من “الحق التاريخي”.

بعدها، دخل الفلسطينيون في متاهة السياسة، وموازين القوى الدولية الذي شهد هبوطا في ميزان القوى العربي الفلسطيني، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية وبداية تدمير العراق. وجد الفلسطيني نفسه أمام مؤتمر مدريد للسلام في 1991، الذي أفضى في سبتمبر 1993 إلى “صفقة أوسلو”، والتي كانت بدورها تلبي لإسرائيل اشتراطاتها الأمنية الصارمة، وللفلسطينيين محاولات استرجاع “الحق النسبي” على “مراحل”.

مفاوضاتٌ عسيرة بين ضعيف وقوي، أبدت خلالها إسرائيل تأييدها لحكم ذاتي في قطاع غزة فقط (1% من فلسطين)، وطالبت منظمةُ التحرير بمدن أخرى في الضفة الغربية (21 % من فلسطين). رفضت إسرائيل، لكن ياسر عرفات أصر على أي مدينة كي تكون بوابة للعودة وللربط بين مدن الدولة الموعودة. في الأخير، قبلت إسرائيل بالتنازل عن مدينة أريحا وهي مدينة محاصَرة بكل شيء إسرائيلي ومعزولة وبعيدة عن وسط الضفة، فالهاجس الإسرائيلي هو الأمن، والقلق الفلسطيني هو الأرض.

عاد الفلسطينيون ونشأت السلطة الوطنية بشكل رئيسي في قطاع غزة، وبدؤوا يراكمون مظاهر الدولة بانتظار الدولة. وفعلا، حققوا نجاحات من جواز السفر إلى مطار، ولاحقا حصلوا على قلب المدن في الضفة. عند الموعد المحدد للتفاوض حول الوضع النهائي للاستقلال (عودة اللاجئين، القدس، ترسيم الحدود، وقف الاستيطان)، عرض الرئيس الأمريكي بيل كلينتون على الفلسطينيين في محادثات كامب ديفيد في جويلية من عام 2000، التنازلَ عن القدس، مما دفع الرئيس عرفات إلى إعلان الرفض وانطلقت انتفاضة فلسطينية مسلحة في سبتمبر 2000 دفعت شارون في أوت من عام 2005 إلى الانسحاب من قطاع غزة، والتمدد في الضفة الغربية التي يسميها الإسرائيليون “يهودا والسامرة”؛ وذلك بعد عمليات عسكرية شرسة قضت على جيوب المقاومة في ”عدوان السور الواقي 1-2″. بدأت إسرائيل تقيم جدرانا مرتفعة تعزل مناطق الكثافة السكانية عن الأرض والمستوطنات، وصممت طرقاً التفافية للمستوطنين بعيدا عن الاحتكاك بالفلسطينيين. بذلك، أصبح المشهدُ في الضفة استيطانا وفرض وقائع.

في غزة، اختلفت فتح وحماس على ما تركه شارون عمداً، وكانت انتخابات 2006 التي أفضت إلى فوز حماس. بدأ الاختلاف يتحوّل إلى خلاف ثم إطلاق نار، وقرر الرئيس الفلسطيني عدم الاشتباك بين عناصر السلطة الضعيفة والمنهارة، ومسلحي حماس. رحلت القيادة إلى الضفة لإدراكها أن المعركة هناك وليست في غزة، وأنها إذا حققت حلم الدولة، ستأتي غزة طوعا أو كرها.

منذ سيطرة حركة حماس سنة 2007، غرقت غزة في الأزمات بفعل الحصار الإسرائيلي، وثلاث حروب، حتى جاء ما يسمى بالربيع العربي في بداية عام 2011 ورفع الإخوان المسلمون شعار نصرة غزة التي تعدُّ أول أرض تقام عليها سلطة للإخوان المسلمين. علا صوت غزة كرمز للمعاناة والبطولة في نفس الوقت، وقال فيها أمير قطر حمد آل ثاني: “لولا غزة، ما دخلنا مصر”.

طغى حضور غزة حتى على القدس، بما لها من رمزية وأهمية عربية وإسلامية، رغم أنها العاصمة. بمرور الوقت، بدا واضحا أن تضخيم غزة كان تقاطع مصالح (غير مباشر) بين إسرائيل التي تريد فصل غزة، وأطراف إقليمية مولت سلطة حماس للبقاء في غزة بداية من جماعة الإخوان المسلمين حتى إيران، مرورا بقطر وبدرجة أقل تركيا.

اعتبرت إسرائيل أنها حققت ثلاثة إنجازات هامة منذ نشأتها، وهي قيام الدولة عام 1948، هزيمة العرب عام 1967، ووقوع الانقسام السياسي الفلسطيني بداية من سنة 2007. الإنجاز الأخير جعل إسرائيل تحقق عدة مكاسب:

عزل ثلث الفلسطينيين، 2 مليون نسمة، على أقل أرض (1%)؛ مما يعني حسم الصراع السكاني.

إعلان عدم وجود شريك فلسطيني قادر على السلام، بسبب الانقسام بين سلطتين.

إظهار الفلسطينيين كأعداء هدفهم تدمير إسرائيل.

تعزيز التناقض بين فتح وحماس بدلا من التناقض مع الاحتلال.

إخلاء مستوطنات صغيرة في غزة والاستيلاء على 60% من الضفة، بمقدار 12 ضِعفاً لحجم قطاع غزة.

 في المقابل، أرادت منظمة التحرير تحويل خسارة غزة إلى فرصة، وذلك من خلال عرض نموذجين للعالم وإسرائيل: نموذج مسلح يريد القضاء على إسرائيل، ممثل في حماس وحكمها في غزة، وهو يمنع الاستقرار؛ ونموذج فلسطيني معتدل يحظى باحترام العالم وتقدير البنك الدولي لمعدلات النمو والتطوير المؤسساتي، بالإضافة إلى قيادة تتبنى النهج السلمي. لكن، للأسف ما حدث هو أن حماس قبلت بهدنة في غزة تحفظ حكمها ورفضت مصالحة تنزع منها حكمها، فيما تحولت فتح إلى سلطة بدون سلطة في الضفة وتلاشت مع الرئيس ترامب فرصة تحقيق الدولة المستقلة حتى لو كانت منزوعة السلاح.

سألتُ في إحدى الجلسات الخاصة أحد كبار القادة الفلسطينيين ما هو جوهر الصراع الآن؟ فرد قائلا: “يتمثل في رقمين: 6 مليون فلسطيني +6 مليون يهودي على هذه الأرض وفق الرؤية الفلسطينية. لكن إسرائيل تقول 4 مليون فلسطيني+ 6 مليون يهودي، باستثناء غزة، ليبقى 2.5 مليون في الضفة، 1.5 مليون داخل فلسطين التاريخية”.

للعلم، فقد أقرَّ الكنيست الإسرائيلي قانون القومية اليهودي؛ وهو قانونٌ يضع مقدمات لطرد أو عزل 1.5 فلسطيني في الداخل، بمعنى أن إسرائيل تريد تفكيك 4 مليون فلسطيني في المستقبل، بحثا عن دولة يهودية خالصة، وحل إقليمي للقضية الفلسطينية يتحمل فيه العرب المسؤولية عن الفلسطينيين.

المعروض على الفلسطينيين فتح وحماس هو “دولة غزة” في بقعةٍ فقدت المياه الصالحة للشرب، وفيها أعلى معدلات البطالة عالميا، وأعلنت الأمم المتحدة أنها مكانٌ سيصبح غير صالح للحياة عام 2020، وكثير من الأزمات، ومن لا يقبل بدولة غزة “هناك من سيملأ الفراغ”، كما هدد مبعوث ترامب للشرق الأوسط جيسون غرينبلات قبل أيام، محذرا الرئيس عباس، وهنا نتذكر محمود درويش: “أمريكا هي الطاعون، والطاعونُ هو أمريكا”.

ملاحظة أخيرة: هناك حديث متنام عن توسعة غزة في شبه جزيرة سيناء المصرية، لكن كل الأطراف من القاهرة إلى فتح وحماس، ترفض المقترح الذي تتبناه إسرائيل في تفكير المستقبل.

اعتبرت إسرائيل أنها حققت ثلاثة إنجازات هامة منذ نشأتها، وهي قيام الدولة عام 1948، هزيمة العرب عام 1967، ووقوع الانقسام السياسي الفلسطيني بداية من سنة 2007. الإنجاز الأخير جعل إسرائيل تحقق عدة مكاسب منها عزل ثلث الفلسطينيين، 2 مليون نسمة، على أقل أرض (1%)؛ مما يعني حسم الصراع السكاني.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • د. فرج الحسينى

    السلم عليكم ورحمة الله وبركاته بارك الله فيكم وسلمت يمينك ، اعجبنى المقال لغته وأفكاره وفهمه العميق للقضية ولكن كنت اود ان يكون اعمق في فهم الخلاف الفلسطينيى ودور الدول الاقليمية في تعميق هذا الخلاف وهذه الدلو بعضها يعاقب غزة ارضاء لليهود وبعضها يدعم غزة ارضاء لليهود ايضا كما كنت اود اقتراح حلول للمشكلة بارك الله فيكم واتمنى ان نصبح صديقين

  • د. فرج الحسينى

    اعجبنى المقال جدا جدا لغته وأفكاره واستشرافه للمستقبل وفهمه للتعقيد السياسي وكنت أود من الكاتب ان يسجل اقتراحاته للفلسطينيين لمواجهة هذه الخطط المحكمة من جانب الصهاينة بدلا من اقتصار الحديث على الاستقراء فقط، شكرا جزيلا لكم واود ان نصبح صديقين