-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عن مذكرات المربي الأديب بشير خلَف

عن مذكرات المربي الأديب بشير خلَف

سعدتُ بهديَّة الأستاذ بشير خلَف المتمثلة في نسخة من كتاب مذكراته الموسوم: “حياتي في دائرة الضوء، سيرة ذاتية” (480 صفحة) صدر في شهر فيفري2021، عن دار سامي للطباعة والنشر والتوزيع، ولاية الوادي، الجزائر. فله منّي خالص التهاني على هذا المولود الفكري الجديد الذي يُضاف إلى قائمة مؤلفاته الكثيرة في مجال الإبداع الأدبي والفكري.

ترك الكتاب أثرا طيبا في نفسي، لأنني وجدت فيه بعض ملامح حياتي ومساري المهني رغم أنه يكبرني بعقد من الزمن. ولعل أبرز القواسم المشتركة بيننا، الانتماء إلى قطاع التربية، والعصامية في مواجهة الحياة، والاعتماد على النفس في التحصيل العلمي بسبب الاستعمار الذي سرق منّا طفولتنا. كان دور المدرسة الخاصة التي تحدَّث عنها الأستاذ بشير بمثابة طوق نجاة لنا نحن جيل مطلع الاستقلال المحروم من المدرسة الرسمية، ومعظم المتعلمين فيها ممرِّنون ومعلِّمون يجدون بالكاد المال الضروري لدفع مستحقات الدراسة، لتأخر وصول مرتباتهم في كثير من الأحيان كما ذكر الأستاذ بشير. علما أن المدرسة الخاصة في ذلك الوقت كان لها طعمٌ خاص، إذ كانت آنذاك بسيطة في شكلها المتكوِّن غالبا من قسم أو قسمين في عمارة، مهمتها إنقاذ الشباب المحروم من التعلم بسبب ظروف الحرب، وكان طلبتها متعطشين للتعلّم بشكل خارق للعادة.

ومن الحلول الأخرى التي وجدناها نحن أبناء جيل مطلع الاستقلال لأخذ قسطٍ من التحصيل العلمي، الانتساب إلى مؤسسة التعليم المعمّم عن بُعد (الدروس بالمراسلة) كما ذكر الأخ بشير خلَف، وكانت شهادتها المدرسية تؤهِّل للتسجيل في امتحان شهادة البكالوريا صنف الأحرار. وامتُحِنتُ أنا أيضا في مركز الأحرار للبكالوريا بثانوية عقبة بالعاصمة كما الأستاذ بشير خلف لكن في سنة 1973.

والميزة الأخرى الجامعة بيننا هي عشق الكتابة الإبداعية، وكانت البداية بالنسبة لي عبر منبر “بريد القراء” لجريدة “الشعب” في مطلع السبعينيات الذي كنت أراسله للتشكِّي من المشاكل التي تواجه الطالب والمعلِّم، ومازلت أحتفظ بأوَّل رسالةٍ لي نشرتها الجريدة مثلما يحتفظ الأخ بشير برسائله الأولى.

والأستاذ بشير خلَف سوفيٌّ من بلدة ڤمار المعروفة بقساوة الطبيعة، التي علّمت السكان الصبر وحصَّنتهم بقدرة عجيبة على تحمّل الصعاب بإرادة فولاذية، وعلّمتهم التحدي والاستجابة. وعليه، فرغم العزلة والبؤس فقد أنجبت بلدة ڤمار ومنطقة سوف بصفة عامة أقلاما وألسنة كثيرة شرّفت الجزائر بما قدّمته من إنتاج فكري في مجالات عدّة، وساهمت في بناء صرح الثقافة الجزائرية، ولعل شيخ المؤرِّخين الدكتور أبو القاسم سعد الله خير مثال على ذلك. على أيّ حال، فإن من لا يعرف إرادة السوافة في تحدي الصعاب، وفي طلب العلم وخدمته ونشره، فقد عاش مغبونا.

إن الأستاذ بشير خلَف ليس من أولئك الذين يقولون “كان أبي”، بل من ذلك المعدن الذهبي الذي يقول: “ها أنا ذا”.. فقد تحدّى العراقيل، فصنع بعون الله مساره الذي يُحسد عليه، فهو سليل أسرة رقيقة الحال، لكنه لم يستسلم، وكان يقوم بدور الأب والابن في الوقت نفسه، أي يشتغل لتوفير لقمة العيش للعائلة، وبموازاة ذلك كان يدرس من أجل بناء مستقبله. ولعل ما يؤكِّد نجاحه المهني أنه بدأ مساره المهني في التعليم مُمرِّنا وانتهى به المسار في منصب مفتش يشرف ويُرشد المعلمين ومديري المؤسسات التعليمية. هذا ولم ينس فضل المعلمين والأساتذة الذين نهل من علمهم سواء في المدرسة الخاصة في عنابة أو في مركز تكوين المفتشين بالعاصمة مقدما شهادة عرفان للسادة محمد جيجلي، علي تواتي، عبد الله حوجال، رابح تركي، وغيرهم… دون أن ينسى المفتشين الذين أخذ عنهم الدروس التطبيقية، منهم محمد الحسن فضلاء (وليس محمد الطاهر فضلاء)، وحسن جرمون، وعبد القادر فضيل وغيرهم).

والجميل في حياة الأستاذ بشير خلَف أنه وجد فسحة من الوقت للإبداع الأدبي، وقد حسده بعض المسؤولين على ذلك، وذكر في هذا الكتاب مجمل أعماله الأدبية وتجاربه في الميادين الثقافية المتنوعة، كالكتابة الصحفية وتأسيس الجمعيات، والمشاركة في الملتقيات وفي الرحلات العلمية، وفي أنشطة ثقافية متعدّدة، دون أن ينسى علاقاته بالمبدعين والكُتّاب، ذاكرا منهم بصفة خاصة الأديب الروائي الطاهر وطار وجمعيته الجاحظية. هذا ومن الطبيعي أن يحظى سي بشير بالتكريم على المستويين المحلي والوطني كما أشار، تقديرا لجهوده التربوية والإبداعية.

أشير إلى أن الكتاب جديرٌ بالقراءة لأهميته القصوى، ففضلا عن إسهاب صاحبه في استعراض سيرته الذاتية التي تعدُّ نموذجا للنجاح، فقد أشار إلى مراحل تاريخية عصيبة مرّت بها الجزائر في مطلع الاستقلال في قطاعات عدّة كالتعليم والإدارة والاقتصاد. وفي الأخير أجدّد له التهنئة على صدور هذا الكتاب الذي سيرفع ذكره عاليا، لأن الإبداع الأدبيّ والكتابة بصفة عامة يصنعان لصاحبهما عمرا ثانيا عابرا للأزمنة، مثلما أكَّد أمير الشعراء أحمد شوقي:

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها * فالذكر للإنسان عمر ثاني .

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!