-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فتنٌ وشقاق في شهر الرّحمة والوفاق!

سلطان بركاني
  • 3410
  • 0
فتنٌ وشقاق في شهر الرّحمة والوفاق!

موقف غريب أثار فتنة كبيرة، شهده أحد مساجد ولاية قسنطينة، في أوّل أيام من رمضان، هذا العام، حين قام أحد الشّباب المتحمّسين بعد سلام الإمام من صلاة العشاء وأخذ مكبّر الصّوت ليخاطب المصلّين قائلا: “أعيدوا صلاتكم، فإنّكم مقيمون وإمامكم مسافر، وصلاة المقيم خلف المسافر لا تصحّ”! هكذا بكلّ جرأة ومن دون تثبّت أو احترام للإمام ولا لعشرات المصلّين الذين يفوقون المجترئ علما واطّلاعا! جزم بطل القصّة ببطلان صلاة المئات من المصلّين وأمرهم بإعادتها، في مشهد يتكرّر من حين إلى آخر في مساجدنا، في ظلّ نقص التّأطير الذي تعانيه بيوت الله.

الإمام الذي صلّى بالنّاس قارئٌ قدم من ولاية أخرى، لكنّه يقيم في المدينة مدّة لا تقلّ عن 27 يوما يؤمّ خلالها رواد المسجد في صلاة التراويح، ولذلك فهو من أول يوم أزمع الإقامة أكثر من 4 أيام، وبالتالي يأخذ أحكام المقيم في قول جمهور الفقهاء، فلا يصحّ واقعا أن يقال إنّه مسافر حتّى نناقش مسألة صحّة صلاة المقيمين خلفه.. ولو افترضنا التسليم بأنّه مسافر، فهل هذا يجعل صلاة المأمومين خلفه باطلة؟ كلا، لن تكون باطلة، بل هي صحيحة بإجماع أهل العلم، ولا يلزم المقيمين إن قصّر إمامهم المسافرُ الصّلاة إلا أن يقوموا بعد سلامه ليتمّوا صلاتهم، قال ابن قدامة رحمه الله: “أجمع أهل العلم على أنّ المقيم إذا ائتم بالمسافر، وسلم المسافر من ركعتين، أنّ على المقيم إتمام الصلاة، وقد روي عن عمران بن حصين قال: شهدت الفتح مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: “صلوا أربعا، فإنا سفر” (رواه أبو داود). ولأن الصلاة واجبة عليه أربعا، فلم يكن له ترك شيء من ركعاتها كما لو لم يأتم بمسافر” (المغني: 2/ 64).

هكذا تثار الخلافات في بيوتٍ يفترض أن تسود فيها الطمأنينة، ويلتزم فيها كلّ فرد ما عليه الإمام وجماعة المسلمين في مسائل الخلاف، وإن بدا لأحد أن يعترض على مسألة يرى الإمام قد أخطأ فيها فالمفترض فيه أن يأخذ بيد الإمام ويخلو به ويبين له وجهة نظره بدليلها، بدل إثارة الصّخب والجدال أمام جموع المصلّين، فضلا عن الوصول إلى تشكيكهم في عبادتهم والجزم ببطلانها، لمجرّد فهم قاصر شاذّ لحديث أو مسألة فقهية.

هذا الشابّ المشار إليه وكثير من أمثاله ينظرون إلى الخلاف في المسائل الفقهية على أنّه نزاع بين حقّ وباطل وهدى وضلال! لذلك يندفعون كلّ الاندفاع للإنكار كما لو رأوا منكرا كبيرا مجمعا عليه، من دون مراعاة لأدب الخلاف ولا لحرمة مكان أو شرف زمان.. وهم بفعلهم هذا لا يدركون أنّهم يسيئون إساءة بالغة إلى الدّعوى التي ينتحلونها، دعوى التمسّك بالسنّة ومحاربة البدعة، ويخدمون من حيث لا يشعرون البدع والمخالفات، ويبغّضون السنّة إلى عباد الله!

الولع بالخلاف والحرص على إظهاره داء دويّ انتشر في أوساط هؤلاء الشّباب انتشار النّار في الهشيم، حتّى غدا لزوم ما عليه الجماعة عند كثير من هؤلاء تهمة يسعون إلى دفعها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.. مثلا، هذا الشابّ المجترئ صاحب الموقف المنكر، يصرّ على تبنّي كثير من الآراء المخالفة لما عليه جمهور الأمّة، فهو يرى أنّ أذان المغرب يتأخّر عن وقته الشّرعيّ بما لا يقلّ عن 10 دقائق، وبالتالي يجوز الفطر في رمضان قبل أذان المغرب، بل يُستحبّ إحياءً لسنّة تعجيل الفطر! كما يرى أنّ أذان الفجر الثّاني يتقدّم عن وقته الشرعيّ بما لا يقلّ عن ربع ساعة وعلى ذلك يباح الأكل والشّرب في رمضان إلى ما بعد ربع ساعة من رفع الأذان الثاني! بل إنّ الشابّ المذكور يرى أنّه يكفي لإباحة الفطر وقصر الصّلاة مغادرة بنايات المدينة التي يسكنها، ولو لمسافة لا تتعدّى 10 كم! وهذا جهل عظيم وسوء فهم لكلام بعض الفقهاء وغلط في تطبيقه، لأنّ الفقهاء الذين خالفوا الجمهور وقالوا إنّ السّفر الذي تقصر فيه الصّلاة ويباح الفطر لا يرتبط بمسافة معيّنة إنّما يرتبط بعرف النّاس، فما قال عنه النّاس إنّه سفر تباح فيه الرّخص المرتبطة بالسّفر؛ هؤلاء الفقهاء أكّدوا على الاحتكام إلى العرف، وعرف النّاس لا يعتبر مسافة 10 أو 20 أو 30 كم سفرا.

مسلك خطير هذا الذي يصرّ عليه بعض شبابنا المولعين بالخلاف، لأنّهم لو اكتفوا بالتزام ما اقتنعوا به في أنفسهم لهان الأمر، لكنّ المشكلة تكمن في إصرارهم على إلزام غيرهم بما تبنّوا من آراء كثير منها مرجوح قال به آحاد العلماء في مقابل ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، والأخطر من هذا أن يجد هؤلاء الشّباب من يمهّد لهم الطّريق ليدخلوا المحاريب ويرتقوا المنابر، ما يزيد الطّين بلّة والخرق اتّساعا، فالشّابّ صاحب القصّة التي بدأنا بها حديثنا -مثلا- جرّأه على ما فعل أنّه وجد من يُشرع له الأبواب ويمكّنه من إمامة النّاس ومن دخول مقصورة المسجد، ما سهّل عليه الجهر بقناعاته بتلك الطّريقة التي استهجنها رواد المسجد جميعا.

لقد أضحى واجبا على الأئمّة والخطباء والدّعاة في هذا البلد، أن يكثّفوا جهودهم لتحذير الشّباب من هذا المسلك الخطير، حتّى لا يتواصل نزيف الشّباب لصالح طوائف أهل الخلاف والشّقاق.. كنّا نعاني في بيوت الله من الشّباب الذين غَرّر بهم المنهج المدخليّ، وها نحن الآن نشهد بداية انتشار لفكر أكثر تطرّفا وحرصا على الخلاف، فكر ظاهريّ إقصائيّ منظّره هو الدّاعية الفلسطينيّ صلاح الدّين أبو عرفة الذي كان يقدّم دروسا غير مرخّصة من على أحد كراسي المسجد الأقصى قبل أن يمنع، ولا يزال الحبل على الجرّار والأيام ربّما تكون حبلى بالمفاجآت والأفكار الغريبة الشاذّة، والله المستعان.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!