-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فوكوياما ونهاية التاريخ

خير الدين هني
  • 848
  • 0
فوكوياما ونهاية التاريخ

المفكر الأمريكي  فوكو ياما، كان قد أصدر مؤلفا بعد سقوط المعسكر الشيوعي قبل نهاية الربع الأخير من القرن الماضي، وكان الباعث على تأليف كتابه، ما سمعه في خطاب الرئيس غورباتشوف (المنافسة هي جوهر الاشتراكية)، فلمعت في ذهنه قدرة السيرورة التاريخية على تطوير الفكر العقائدي لدى الإنسان، لأنه اعتبر المنافسة أهمَّ مكونات الرأسمالية، فقال: “إذا صحّ ذلك من غورباتشوف فمعناه أننا وصلنا إلى نهاية التاريخ”، لأنه كباحث في السياسة السوفييتية في مؤسسة (راند) كان متشائما مما وقع من مآسي الحربين العالميتين اللتين غذتهما الأفكار المتطرفة للنازية والفاشية والستالينية، ومن بعدها ظهرت الديكتاتوريات واليوغاشية وحكم العائلات في العالم العربي، وما أسفر على ذلك من طغيان الفردانية واللاشرعية، ومركزية التفكير والتسيير.

كان متشائما لما حدث من تحولات مأساوية، وقعت في القرن العشرين خالفت النزعة التفاؤلية لمفكري القرن التاسع عشر الذين تنبأوا بمستقبل زاهر للبشرية في القرن العشرين، وبعدما استعرض مراحل تطور التاريخ وما صاحب ذلك من نظرة المفكرين الغربيين لمستقبل التاريخ، فتغيرت لديهم التصورات التي كانت تسيطر على العقل السياسي والديني في الغرب، وقد انبثق في نفوسهم الإحساس بالفأل وتغيير مسار التاريخ نحو الأفضل، بعدما  هزمت الثورتان الفرنسية والأمريكية قلاع الأوتوقراطيين، واستبدلتهما بسلطات عقلانية حاربت الإقطاع والكهنوت والنزعة الفردانية، وتحوّل الاتجاه السياسي عندما ساد العقل لدى نخبة الحكم، إلى نزوع خيّر يحترم الشرعية والحقوق والحريات وقواعد المنافسة.

ولكنّ الحربين العالميتين وما تركتاه من مآسي ودمار شامل، أحدثتا صدمة عنيفة لدى من كانوا يتوقعون مستقبلا زاهرا للإنسانية، لأنهم اعتبروا الطغيان والاستبداد هما سبب مأساة الإنسان وفقره وتخلّفه وتحطيم مستقبله، لأن المصائب كلها نتاج سياسة الطغيان والاستبداد، إذ يعيث المستبدون فسادا في الدولة، مثلما فعلته النازية والفاشية والستالينية واليوغاشية، لأن حكم الفرد المستبد هو الذي طغى على تسيير هذه الدول الناشزة، ولهذا اعتبر الكاتب ما بناه مفكرو القرن التاسع عشر من تفاؤل خيّبت آمالهم، أوهامُ الشيوعية والديكتاتورية، وحكمُ العائلة المميت للشعور والإحساس، فاحتكروا السياسة والرأي والحرية والتسيير الاقتصادي والمرجعية الثقافية والتوجيه الاجتماعي، وبددوا ثروات بلدانهم في إشباع نزواتهم وغرورهم، وأدخلوا شعوبهم في حروب أهلية أتت على حركةِ كل مفعم بالحياة، وأذاقوهم مرارة الفقر والجوع والتخلف والحرمان، فلما سقطت الشيوعية وتوابعُها، وحلت محلهما سياسات التحديث السياسي، أخذ العالم يحدد معالم نهاية التاريخ، بالنزوع نحو الديمقراطية اللبرالية والمنافسة الحرة واقتصاد السوق، فقد اعتبر انكشافَ النظم السلطوية والشمولية وانتصار اللبرالية عليها، انتصارا للقيم السامية على الإيديولوجيا الطوباوية،  وأن إفلاس الدولة الاستبدادية سببها هو الإفلاس الإيديولوجي، لافتقارها لمبادئ سياسية مثالية، تعود إليها عند تفاقم الأزمات، ومن هذه المبادئ السامية شرعية الحكم، لأن الشرعية تشبه الاحتياطي النقدي الذي تلتجئ إليه الدول عند اشتداد الأزمات المالية.

تعمّق الفيلسوف فوكو ياما في تحليل الأزمات، الناتجة عن النظم اليمينية والسلطوية والشمولية في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا والعالم العربي، وما حدث فيها من تحولات وتحديث سياسي، لصالح الديمقراطية اللبرالية واقتصاد السوق، والتحليل في مجمله يقوم على تصور شامل لعوامل سقوط الأيديولوجيات الشيوعية والقومية، وحلول القيم السامية للبرالية والديمقراطية وقواعد المنافسة، وهي القيم التي مثلت نهاية التاريخ، لكونها تساير الطبيعة الإنسانية التي تقوم على دينامية التطور الفكري والإبداعي ضمن ما تتيحه الحرية في الحركة والنشاط، والتنافس الحرّ في المعاملات الاقتصادية والمالية، والحركات السياسية والثقافية والاقتصادية والتجارية غير المؤدلجة.

وأنا إذ أصدر هذه المقالة بما أشرت إليه في التصدير لما جاء من نفائس قيّمة في كتاب هذا المفكر الكبير، أكون قد سمحت لنفسي بتحليل محور هذا التصدير المقتضب بتصرف، مع  الاستناد إلى بعض الأفكار العامّة التي وردت في الكتاب، وليس تلخيصا لما جاء في كتابه (نهاية التاريخ)، وعلى ذلك يمكن طرح الإشكالية على ضوء حكمه النهائي بتفوق النظام اللبرالي الديمقراطي على غريمه الإيديولوجي، ومن أن النظام اللبرالي الديمقراطي هو من يمثل القيم السامية التي فرضت هيمنتها على العالم بعد السقوط، لملاءمتها للحياة وصلاحية آليات تطبيقها في الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والاقتصادي.

ومع أن نظرة الكاتب الفيلسوف فيها جوانب كثيرة من الحقيقة، ولكن الحقيقة لا يمكن أن تكون مطلقة كما يقول الفلاسفة والعلماء، كقول الإمام مالك: “كلٌّ يؤخذ من كلامه ويرد، إلا صاحب هذا القبر”، لأنه نبيٌّ يوحى إليه، وكقول الشافعي: “كلامي صواب يحتمل الخطأ وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب”.

وما جاء في هذا الكتاب اعتبره الكاتب حكما مطلقا، لأن الكاتب نظر إلى القضية من وجهة نظر أرستقراطية استعلائية، لكونه ينتسب إلى أمة متغلّبة ومسيطرة بفكرها اللبرالي، والدول كلها أصبحت تسبِّح بحمدها، وحكمه لم يكن إلا ظرفيا لأن تحليله اقتصر على ما كان موجودا في بؤر طغى عليها تسلط الشيوعية والنازية والفاشية واليوغا شية، غذاها النزوع الإيديولوجي القائم على المصادرة والاستبداد والاحتكار، والسياسة اللبرالية تقوم على القيم الرفيعة، كالحرية والديمقراطية والمنافسة والشفافية وحقوق الإنسان.

والتحليل الذي تناول فيه الإيديولوجية الشيوعية والقومية، ومقارنتهما مع غريمتهما اللبرالية فيه من الحق شيءٌ كثير، من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكنهما من الوجهة الفلسفية كلاهما تبنيان تصوراتهما على الجدلية المادية، إما الجدلية المادية التاريخية كما تتصوره الشيوعية، أو الجدلية الواقعية النفعية كما تنظّر له اللبرالية، وكلاهما جدليتان لا تؤمنان بالفلسفات الروحية ومتعلقاتهما الأخلاقية والأدبية، وكل بناءٍ فلسفي غير حسّي تخيّله البشر هو بناءٌ تجريدي، ولذلك قد يتوافق مع تغيُّر الأحداث التي يفرضها التطور التاريخي، أو يتلاشى من الوجود والاستعمال حينما تتغير أحداث التاريخ.

الشمولية بهذا المفهوم تشكل نظاما أبويا استعلائيا، تُخضِع المجتمع قسريا ليكون خاضعا خضوعا تاما للإيديولوجيا. ووفقا لهذا المشروع العقائدي فإن الشمولية تسيِّس كل شيء روحي وبشري ومادي، وتدمجه تحت سلطة الدولة التي تتحول بموجبه إلى مؤسسة احتكارية، لا تسمح لأي حركة أو نشاط خارج إشرافها ومراقبتها، ولذلك هي تحارب كل نشاط يناهض الدولة أو زعماءها ورجالاتها.

وإذا اعتبر سقوط جدار برلين ومن ورائه إمبراطورية الاتحاد السوفييتي، هو النقطة الفاصلة بين النصر والهزيمة، وبين إيديولوجية طوباوية تجريدية مخادعة لا تقوم على أسس واقعية وعقلانية، ولا تتوافق مع طبيعة الحياة الحرة، لأنها إيديولوجية شمولية وغير شرعية، تقوم على القوة والمصادرة والقهر والاستبداد، وإجبار الإنسان على الاعتراف بما لا يحبه ولا يؤمن بخياراته الاقتصادية والاجتماعية، حينما أجبرته سلطة المركز السياسي على قبول مصادرة أراضيه وأجبرته على العمل في مجموعات فلاحية؛ جعلته كماكينة أو جهاز آلي مصنَّع من قطع معدنية منظمة وفق ترتيب معيَّن، وقد رُكِّبت أجزاؤه لتؤدي وظائف معينة بالتعاون مع بعضها، ولكن هذا الجهاز الآلي منزوع الإرادة والإحساس وحرية الاختيار، والإنسان المؤدلج شبيهٌ بالماكينة الآلية، لأنه يؤدي وظائفه بمشيئة موجَّهة بالإكراه، من غير أن يكون متمتعا بالاستقلال في الرأي والحرية في الاختيار والمنافسة.

والإنسان عندما يُؤدلج بعقيدة كُلّيانية يفقد الإحساس بذاته ووجوده، ويفقد القدرة على تسيير شؤونه الخاصة، لأنه لا يجعل في الاعتبار القيم السامية التي تجعله يحسن التخطيط والتنفيذ، إذ حوّلها المغامرون الشموليون إلى عقيدة قهرية، تقوم على الكُلُّيانية، التي تعني في تعريف (جنتيلي) بأنه مفهومٌ يقوم على عقيدة بنيوية تمثلها أهدافا جديدة للدولة العقائدية، أي “التمثيل والتوجيه الشامل للأمة والأهداف القومية”، والشمولية بهذا المفهوم تشكل نظاما أبويا استعلائيا، تُخضِع المجتمع قسريا ليكون خاضعا خضوعا تاما للإيديولوجيا. ووفقا لهذا المشروع العقائدي فإن الشمولية تسيِّس كل شيء روحي وبشري ومادي، وتدمجه تحت سلطة الدولة التي تتحول بموجبه إلى مؤسسة احتكارية، لا تسمح لأي حركة أو نشاط خارج إشرافها ومراقبتها، ولذلك هي تحارب كل نشاط يناهض الدولة أو زعماءها ورجالاتها، ولتحقيق تلك الغايات فإنها تركز على الاعتراف بالعقيدة الشيوعية أو اليوغا شية، والإيمان بقوة رجالها الزعماء.

والاعتراف كان هو الهاجس الذي شكَّل العقل الإيديولوجي للسوفييت، وإجبار الفرد المؤدلج على الإيمان القسري بخياراته، ولتحقيق هذه الأهداف أحكموا السيطرة على المجتمع من طريق الرقابة الشديدة، وجعلوا لذلك أجهزةً حازمة للرقابة. وهذه الإيديولوجيا المغلقة هي التي حوَّلت الاقتصاد المحتكَر من الدولة إلى قطاع مشلول في الإنتاج والإنتاجية، وهي التي أضعفت السوفييت وأفقدته القدرة على البقاء والاستمرارية، ولذلك سرعان ما انهار وحلّ به الفناء على أيدي مؤسسيه والمروِّجين له عام 1989.

أما الصين الشيوعية فقد أدركت بأن النموذج الشيوعي الاحتكاري، غير مناسِب لقواعد المنافسة، لذلك تخلت عنه في عام 1978م، وفتحت البلاد للاستثمارات الأجنبية، فتضاعف الإنتاج الفلاحي أربع مرات عما كان عليه في المجموعات الفلاحية، عندما تخلت على الاعتراف بالعقيدة الشيوعية كنموذج صالح للاقتصاد، وهذا ما سأتناوله في مقالة أخرى إن وفقنا الله.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!