-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

قليل من الفلسفة قد يؤدّي إلى الإلحاد

سلطان بركاني
  • 3446
  • 1
قليل من الفلسفة قد يؤدّي إلى الإلحاد

تداول بعض الأئمّة وبعض الناشطين على مواقع التواصل، بحر هذا الأسبوع، باستهجان كبير، خبر تطاول أستاذة الفلسفة بإحدى الثانويات، على الإسلام، حيث زعمت أنّه لا يواكب العصر! ووصفت التديّن والالتزام بأنّه نوع من التخلّف! حسب ما تناقله التلاميذ الذي كانوا شهودا على الواقعة.. والحقّ أنّ هذه الأفكار الموبوءة لا تدلّ إلا على جهل حملتها، وكان حقّهم أن يستخْفوا بجهلهم ويستتروا به ويستحيوا منه، لكنّهم أبوا إلا أن يتباهوا به على رؤوس الأشهاد، مستغلّين عزوف عامّة النّاس عن تعلّم دينهم ومعرفة دلائل أحقيته، وخفوت الغيرة له في نفوس الخاصّة قبل العامّة!

يقول الفيلسوف الإنجليزي “فرانسيس بيكون” (ت: 1626م) الذي قاد في القرن السابع عشر ثورة علمية قائمة على “الملاحظة والتجريب”: “قليل من الفلسفة قد يؤدّي بك إلى الإلحاد، لكنّ التعمق الشّديد في الفلسفة يرمي بك في أحضان الدين”.. وهذا الذي قاله أحد أعلام الفلسفة الغربية، ينطبق شقّه الأوّل تماما على جهلة الملاحدة والعلمانيين في البلدان العربية والإسلامية، حيث يظنّ الواحد منهم أنّ ترديد بعض العبارات الفضفاضة التي يحسبها الظمآن إلى العلم والفهم شيئا ذا بال، يمكن أن يُعلي من شأنه ويجعله مثقفا واعيا في وسط من يراهم جهلة متخلفين، فإذا ما تصدّى له من يكشف جهله لاذ بالقهقهة والضّحك واستدعى العبارات الفارغة التي يردّدها الفارغون مثله، من قبيل قوله: “يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم، أنتم تمارسون الإرهاب الفكريّ، أنتم تخافون ممّن يستخدم عقله،…”!

التعمّق في الفلسفة يقود إلى الإيمان

الشقّ الثاني من مقولة “بيكون”، ينطبق على كثير من الفلاسفة الذين مالوا في خطواتهم الأولى على طريق الفلسفة إلى الإلحاد ودافعوا عنه بشراسة وازدروا الإيمان وأهله، لكنّهم عادوا في نهاية المطاف إلى رحاب الإيمان وسخّروا الفلسفة في الدّفاع عن الدّين، ونجد من هؤلاء في الأوساط العربية: الفيلسوف المصريّ الدكتور زكي نجيب محمود (ت: 1993م)، الذي ينسب إليه نقل الوضعية المنطقية إلى الفكر العربي في أربعينات القرن الماضي، وهي الوضعية التي تقوم على الإيمان بما هو حسي قابل للتجريب وإنكار كل ما هو غيبي، وألف كتابه “الميتافيزيقا”.. لكنّه في أواخر حياته عاد لينهل من الفكر الإسلاميّ، ودافع عنه واعتذر من دفاعه السابق عن الفكر الماديّ، ومن كتاباته الأخيرة: “أفكار ومواقف”، “قصة عقل”، “قصة نفس”، “رؤية إسلامية”، ويُذكر أنّه توفي -رحمه الله- وهو عاكف على إخراج كتاب عن عظمة الفقه الإسلامي.
وبتجربة قريبة، مرّ الفيلسوف المصري الدكتور عبد الرحمن بدوي (ت: 2002م)، الذي كاد يغرق في الوجودية الإلحادية، قبل أن يعود أدراجه وينتصر للإيمان ويعكف على الدّفاع عن القرآن ونبيّ الإسلام ضدّ شبهات المستشرقين.

أمّا الدكتور مصطفى محمود، فكان صاحب واحدة من أشهر التجارب في القرن العشرين، حيث انتقل إلى الإلحاد في مرحلة الشّباب من حياته، لكنّ الأمر انتهى به إلى رحاب الإيمان، حيث ألّف كتبا من أروع ما ألف في الإيمان بالله، منها كتابه المشهور “رحلتي من الشكّ إلى الإيمان”، وأخرج برنامجا تلفزيونيا عنوانه “العلم والإيمان” تابعه الملايين، وكان سببا في زعزعة موجة الإلحاد التي غذّتها العلمانية في الربع الأخير من القرن العشرين.

لا فصام بين العلم والإيمان

يُشيع الجهلة من مراهقي الإلحاد العربي عن الدّعاة والعلماء أنّهم يرفضون استخدام العقل ولا يهتمّون بالعلم التجريبيّ! وهذه كذبة صلعاء، ربّما تَصدق في حقّ بعض المتديّنين وبعض العلماء التقليديين، لكنّها لا تصدق أبدا في حقّ الدّعاة والمصلحين الذين يملكون اطّلاعا واسعا على ما يستجدّ في شتّى مجالات العلم النّافع، ويخوضون النقاشات مع أدعياء التنوير بكلّ ثقة، ويكشفون جهالاتهم بالمنقول والمعقول، ويفضحون ضحالة بضاعة أدعياء العلمانية وأشباه الملحدين في التمييز بين ظنيات العلم وحقائقه، وقديمه وجديده.

من عجائب جهلة الإلحاد المنتفخين أن تجد الواحد منهم يتمسّح بالعلم ويردّد قوله: “أنا أصدّق العلم”، بينما هو في واقع الأمر يصدّق ما يعرضه الملاحدة والعلمانيون في مجموعاتهم وصفحاتهم على أنّه علم، ويأخذه دون تمحيص أو مراجعة ولا يترك نقاشا إلا عرض الدّعاوى التي يحفظها كما تعرض المسلّمات! فإذا ما صادف من يدعوه لمناقشة ما يعرضه، أطلق العنان للدّعاوى الفارغة: “هذه حقيقة علمية اتّفق عليها العلماء، هذه لا نقاش فيها،…”!

في ثلاثينيات القرن الماضي قال عالم الفيزياء الألماني “فيرنر هايزنبيرغ” (ت: 1972م) الحائز على جائزة نوبل لعام 1932م: “أول شربة تشربها من كأس العلوم ستقودك إلى الإلحاد، لكنك ستجد الله ينتظرك عند نهاية الكأس”.. وهذه الكلمة تَصدق في حقّ كثير من العلماء والفلاسفة الذين مالوا في بداياتهم إلى الإلحاد واللادينية، ثمّ عادوا إلى الفطرة والإيمان، بعد أن خطوا خطوات لا بأس بها على طريق العلم، وهي الخطوات التي تكشف لهم تواضع ما يصل إليه الإنسان أمام الحقائق المكنونة في الكون الفسيح، يقول هايزبيرغ: “الكون ليس أغرب مِما نعتقد فحسب، بل هو أغرب مما يمكننا أن نعتقده”، ويقول: “لا تغطي المفاهيم العلمية الموجودة دائمًا سوى جزء محدود جدًا من الواقع، والجزء الآخر الذي لم يتم فهمه بعد لا نهائي”.

هؤلاء الذين شرَقوا بأوّل رشفة من الفلسفة وأصابهم عمى الألوان بأوّل طلّة على العلم، يكاد يجزم الواحد منهم أنّ الاستشهاد بنصوص الدّين وإقامة واجباته وإظهار شعائره هي أهمّ أمارات الجهل والتخلّف، بينما يشهد العقل الصّحيح بأنْ لا تناقض بين كون المرء متديّنا وبين رصانة عقله وسعة اطّلاعه، يقول الأستاذ “غابريال دالي” في حديثه عن واحد من أشهر الكيميائيين والفيزيائيين: “كان مايكل فاراداي رجلًا شديد التديُّن، وكانت في منزله غرفتان يتردد عليهما باستمرار: مختبر وغرفة للصلاة، وأجد أن المختبر وقاعة الصلاة رمزان مفيدان للتعبير عن العلاقة بين العلم والدين. من الجليّ أن فاراداي لم يَرَ أي تناقض في الانتقال من غرفة إلى أخرى. نفس الشخص استعمل الغرفتين، على الرغم من اختلاف العمل الذي مارسه في كل غرفة، لا شك أنه عندما كان يؤدي الصلاة، كان يستحضر من حين لآخر بعض الظواهر التي كشفت عنها دراساته العلمية ويمتدح الإله على إبداع الخلق” (دالي غابريال: العلم، الدين، والعلمانية).

دافع الإلحاد المخفيّ!

الحقيقة التي لا يجرؤ كثير من أشباه الملاحدة في بلداننا العربية الاعتراف بها أنّهم يغلّفون عقدهم النفسية ويخفون شهواتهم الدنيئة، بالفلسفة والعلم، وهذا ما اعترف الفيلسوف الأمريكي “مورتيمر أدلر”، أستاذ جامعة شيكاجو (ت: 2001م) الذي ظل طيلة حياته مدافعًا عن الإلحاد، ثم آمن بالله في الحادية والثمانين (81) من عمره، وحين سئل عن تأخر إيمانه؟! قال: “إنّ الحقيقة البسيطة للأمر، هي أنني لم أرغب في العيش كشخص متديّن مخلص، لأن هذا يتطلّب تغييرًا راديكاليًا في طريقة معيشتي، وتحولًا في مسار خياراتي اليومية”!

الملحد العربيّ، يريد أن يتمتّع بالشّهوات طولا وعرضا، من دون حدود أو حواجز.. ولكي يتخلّص من وازع الفطرة في داخله، لا يجد إلا أن يعلن إنكار وجود الخالق سبحانه، أو يتّهم الدّين بمفاصلة العلم، أو يتّهم أهل الدّين بالتخلّف والتشدّد! فلا ينبغي أن نصدّق أكاذيب ملاحدة العرب الذين يزعمون أنّهم ألحدوا عن قناعة علمية! فالواحد منهم يدفعه ضُعفه أمام نفسه الأمّارة بالسّوء وبغضه لزواجر الدّين، إلى الإلحاد، ثمّ بعدها يبدأ في البحث عمّا يظنّه ذرائع علمية لإلحاده، وهي في الحقيقة أحبولات أوهى من خيوط العنكبوت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • الجزائر الحبيبة

    جزاك الله كل خير.