-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

كيف النّجاة من الفتن؟

سلطان بركاني
  • 1250
  • 0
كيف النّجاة من الفتن؟

خلال نصف القرن الأخير، عبّدت العلمانية الطّريق لفكر ظاهري جدليّ يشغل المسلمين بالخلاف في قضايا العقيدة التي لا ينبني عليها عمل: هل لله يد؟ هل لله ساق؟ هل الله يهرول؟ وبالجدال في قضايا الفقه الجزئية، في وقت يستأثر فيه العلمانيون بالحكم والإعلام والتعليم، وسهّلت الترويج لفكر يقزّم الإسلام ويشغل المسلمين بقضايا الفقه الصغيرة عن قضايا الدّين الكبرى، ويذكي الخلاف ويوسّعه ويحاكم العلماء والدّعاة ويصنّفهم!

فكر يحرّم التّصوير في زمن الصّورة، ويمنع إخراج زكاة الفطر نقدا في زمن الدينار والذّهب والفضّة والعملة الإلكترونية، ويحرّم على المرأة قيادة السيارة، ويجادل في وصول الإنسان إلى القمر وفي كروية الأرض.. يشغل المسلمين بحكم المسح على الجوربين في الوقت الذي يثبّت فيه العلمانيون أقدامهم في مواقع التأثير، ويشغل المسلمين بحرمة التصوير في وقت يستنفر فيه العلمانيون وسائل الإعلام ويستعينون بأدوات التأثير لنشر العلمانية في المجتمع، ويشغل المسلمين بحكم قيادة المرأة للسيارة في وقت تعمل فيه المسلسلات عملها في البيوت وتعبث بعقول المسلمات.. علمانية دينية أبعدت كثيرا من المسلمين عن قضايا الشأن العامّ، وسهّلت لرواج العلمانية الإنسانية والعلمانية الإلحادية، وهذه بدورها ذلّلت الطّريق أمام الدين العالميّ الجديد الذي يسوّي بين الأديان، ويبيح المنكرات والفواحش ويدعو إلى احترام الشّذوذ واعتباره اختيارا محترما.

عملت العلمانية الماكرة -كذلك- على تشويه صورة الجهاد الصّحيح وخوّفت المسلمين من الحديث عنه فضلا عن التفكير في رفع رايته لنصرة المظلومين وردّ المعتدين، حينما سهّلت إنشاء جماعات متشدّدة متطرّفة تحاكم المسلمين وتستبيح دماءهم، ولا ترحم عباد الله المؤمنين في زمن غربة الدّين.. كما عملت العلمانية الماكرة على نشر الخرافة والطرقية في زمن غزو الفضاء. أُشهِر للأضرحة والمزارات وقدّمت الزردات والوعدات على أنّها ثقافة مجتمع محترمة، وبدءًا من العام 2003م وبعد احتلال العراق، سهّلت العلمانية إعادة فتح الحسينيات ودعمت مسيرات اللطم والتطبير والمشي على الجمر والزّحف إلى القبور والبكاء عند شبابيكها، وأغرت وسائل الإعلام العالمية بتصوير مشاهد الدّماء التي تُسال من الظّهور ومن جباه الأطفال في عاشوراء، ما كان صيدا ثمينا لوسائل الإعلام العالمية وللعلمانية التي قدّمت تلك المشاهد على أنّها جزء من الدّين!

هذه الأفكار والممارسات البعيدة عن الدّين، عُبّد لها الطّريق لتنتشر في العقود الأخيرة، وتكون -بالتكامل مع الدّور الذي يلعبه الدّعاة الجدد الذين ترعاهم مؤسسة راند الأمريكية- سببا في صدّ شباب الجيل الجديد عن دينهم، ما يجعلهم فريسة سهلة للعلمانية والإلحاد.

فساد عظيم فتحت العلمانية أبوابه على العالم الإسلاميّ، وفتنُ شهواتٍ وشبهات كقطع اللّيل المظلم يسوَّى في أيامها بين الفضيلة والرذيلة، وبين الإيمان والكفر، وبين التوحيد والشّرك، ويصبح المعروف فيها منكرا والمنكر معروفا، ويرجع معها الدّين غريبا كما بدأ أوّل مرّة!

إنّه لا عصمة من هذا البلاء المتعاظم إلا بتقوى الله والاستعانة والاستعاذة به من الفتن، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم﴾.. حتّى يفرّق العبد المؤمن بين الحقّ والباطل في مثل هذا الزّمان ينبغي له أن يتقي الله ويخافه ويحذر المعاصي والذّنوب؛ فالمعاصي تطمس البصيرة وتُعمي مرآة القلب..

المعاصي في زماننا هذا أبوابها مفتوحة وطرقها معبّدة وخطورتها أشدّ من أيّ زمن مضى، ورُبّ معصية يشرب القلب حبّها تكون سببا في خفاء الحقّ والافتتان بالباطل. يقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾.. وفي المقابل، فإنّ أعظم سبب للثبات أمام الفتن هو لزوم الطّاعات، خاصّة عبادات الخفاء، من قيام ليل وصدقة خفية وكثرة ذكر واستغفار وصلاة على النبي المختار: يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل” (صحيح الجامع). يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “الذنوب الخفيات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات”، ويقول بعض الصالحين: “من أكثر عبادة السر أصلح الله له قلبه شاء العبد أم أبى”، ويقول آخر: “من اشتكى ضعفا (أي في إيمانه) فخلوته بربه نادرة”، ويقول آخر: “ما ابتلي المؤمن ببلية شرٍّ من المعصية الخفية، ولا أوتي دواءً خيرا من طاعة الخفاء”، ويقول الشيخ الطريفي -فرّج الله كربه-: “كلما زاد خفاء الطاعات كلما زاد ثباتك، كالوتد المنصوب يثبت ظاهره بقدر خفاء أسفله في الأرض، فيقتلع الوتد العظيم، ويعجز عن قلع الصغير.. والسر فيما خفي”.

فاحرص أخي المؤمن على اجتناب المعاصي، في السرّ والعلن، وإن زلّت نفسك فليتب من قريب واندم وأتبع السيّئة بالحسنة، واحرص على أن يكون سرّك أفضل من علانيتك، وفعلك أفضل من قولك، واحرص على أن يكون بينك وبين الله سر من أعمال صالحة تجتهد في إخفائها ما أمكنك.
لا أحد منّا يضمن قلبه في هذه المدلهمّات، ولا أحد منّا يضمن أن يبقى ثابتا على دينه أمام هذه الفتن التي تزداد حدّة عاما بعد عام.. الثّابت من ثبّته الله، لذلك ينبغي لكلّ منّا أن يوطّد علاقته بمولاه ويسأله بالليل والنّهار أن يثبّت قلبه على دينه، فنحن ربّما نكون في الزّمان الذي يصبح فيه العبد مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح افرا، يبيع دينه بعرض من الدّنيا!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!