-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لا إصلاح بلا استقرار

لا إصلاح بلا استقرار
ح.م

“إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت” (الآية 88 سورة هود). واحدة من الآيات القوية والشهيرة والمؤثرة في القرآن الكريم الذي أنزل على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام كما الكتب السماوية الأخرى لغرض الإصلاح، بل وأمرت أتباعَها ومريديها ومعتنقيها بضرورة مواصلة عملية الإصلاح، كل حسب موقعه وقدرته وزمانه الذي يعيش فيه.

كما أن ورود لفظ “الإصلاح” هو إقرارٌ صريح في المقابل بوجود “الفساد” لتكتمل بذلك معادلة الحياة القائمة على الاحتراب الشرس والصراع المرير ذي الأشكال المتعددة بين قوى الإصلاح وقوى الفساد، بين قوى الخير وقوى الشر، الذي يعدّ صراعا مندلعا من مبتدإ الإنسانية إلى أزلها، والتاريخ يُخبرنا بشواهد عديدة أرَّخت لفصول هذا الصراع، فتارة انتصر أهل الإصلاح، لأنهم أخذوا بقواعده وفهموا أدواته، وتارة انتصر أهل الفساد، لأنهم أيضا في المقابل أخذوا بقواعد لعبته مستغلين انسحاب أو ضعف أو غفلة قوى الإصلاح والتغيير.

يحكي القرآن الكريم ملاحمَ وبطولاتٍ وفصولاً لأحداث كثيرة من الاحتكاك المباشر الذي أخذ أشكالا متعددة من الصراع، لعل أبرزها الصراع المرير بين نبي الله موسى عليه السلام وفرعون، وبين نبينا محمد عليه السلام وقومه في تأسيس الدولة الحديثة وتمتين ركائز الدين الجديد، لتبقى قبل ذلك وأثناءه وبعده معادلةُ الإصلاح واحدة من أهم السمات التي طبعت المجتمعات والحضارات والدول المتعاقبة في كل العصور وستبقى.

سأحاول من خلال هذه السلسة التي سميتها “قواعد الإصلاح” أن أركز على مجموعة من المحددات والقواعد والأطر التي وجب على أهل الإصلاح ودعاة التغيير وأصحاب المشاريع الكبرى والجادة أن يأخذوها بعين الاهتمام، ولعل أهمها وأولها هو: ضرورة أن يكون هذا الإصلاح في ظل الاستقرار.

لا أحدَ ينكر أن من أهمّ عوامل نجاح أي إصلاح ماديا كان أو معنويا إنما يعتمد بالأساس على البيئة محل التغيير من السيئ إلى الحسن، ولعل من أهم هذه المساعي:

– تأسيس دول وأنظمة وكيانات قوية قائمة على العدل والمساواة والمواطنة.

– تحقيق التنمية التي تعتبر مركز صراع الإنسان الوجودي والرغبة الغريزية المتجددة.

– تأسيس نظام اجتماعي قائم على الرفاهية والتكافل والسكينة.

– خلق نظام ثقافي متوازن قائم على الإبداع والفنّ الهادف ومختلف منتَجات الحضارة في شقيها المادي والمعنوي.

– نظام ديمقراطي قائم على التداول والحكم الراشد.

– هيبة دولية محترمة، وكيان سيادي مهيب وموطئ قدم راسخ في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء.

– منظومة تربوية وأخلاقية وعلمية قائمة على الابتكار والتطوير والإبداع.

– نظام أمنى قوي يحفظ الممتلكات والبلد والحدود.

وعليه، أجزم بالقول ومن خلال الأخذ بعين الاعتبار النقطة الأخيرة (الأمن) أنه لن يتحقق أي إصلاح في ظل الفوضى والثورات العشوائية والحروب الأهلية أيا كان موقعك فيها ظالما أو مظلوما، ولذلك انتبهت قوى الغرب تحديدا المهيمِنة على العالم ومقدراته إلى فكرة “الفوضى الخلاقة” لتدمير دولنا ومجتمعانا لأنها تدرك تمام الإدراك ألا إصلاح مع الفوضى ولا تغيير مع اللاستقرار، وسأضرب بعض الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر للتوضيح:

– الحرب الأهلية في لبنان التي ورغم توقفها بمقتضى اتفاق الطائف الشهير، إلا أن آثارها لا تزال متمثلة في التناقض والتنافر بين الطوائف المشكِّلة للمجتمع اللبناني في ظل اقتصاد ضعيف ونسيج اجتماعي وديني مفكك، ما أدى إلى فشل كل قوى الإصلاح في إحداث فارق وصناعة قصة نجاح.

– الحرب الأهلية في الجزائر (العشرية السوداء) التي أضاع فيها المتطرفون فرصة ذهبية على الجزائر، وأدرك الجميع يومها والآن أن الاستقرار مقدَّم حتى على العدل والمواساة والحريات ولقمة العيش.

– عسكرة الثورة السورية، فلا تسأل سوريًّا اليوم إلا ويحلم بعودة السلم والأمن والاستقرار، بل ويتمنَّى بعضهم العودة إلى سنوات ما قبل الثورة على علاتها واستبدادها، ماذا ستفعل الحركات الإصلاحية في بلد مدمَّر مثل سوريا في ظل انعدام الاستقرار؟ إن فكرة عسكرة الثورة كانت خطأ استراتيجيا قاتلا ومدمرا أتى على أخضر سوريا ويابسها والضحية بعد الإنسان هي عملية الإصلاح.

– ليبيا وانحصار مشروع الإصلاح في ظل فوضى السلاح والقتل والاختطاف، فلم يعد الانسان آمنا على عرضه ودمه وروحه فضلا عن أن تحدِّثه عن الإصلاح بعدما أرجعوا ليبيا إلى القرون الوسطى.

صرتُ أكثر قناعة وأعمق إدراكا بأن الركيزة الأولى لنجاح عملية الإصلاح هي في تحقق شرط الاستقرار، الذي وجب على الذين يحملون شعاره أن ينتبهوا إلى درجة الحذر وعدم التهاون في خلقه إن انعدم، والمحافظة عليه إن وُجد، وهذا متاح بل وفي الإمكان، قد يأخذ وقتا وجهدا وتركيزا وتضحية لكنه الطريق الأمثل والسبيل الأصوب، والتاريخ بشواهده الكثيرة يخبرنا بأن الإصلاح الهادئ والمتدرِّج والسلمي هو الذي آتى أكله، والدليل ما عبَّرت عنه الآية الكريمة: “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت” التي تعني في ما تعنيه أنك لن تستطيع دوما أن ترى ثمار إصلاحاتك، بل أنت مطالبٌ بالأخذ بالأسباب، وهي إشارة واضحة على أن عملية الإصلاح مسار طويل ليس للعجلة فيه أو التسرع مكان.

مختصر القول: حافظوا أيها المصلحون على مكتسب الأمن والاستقرار فإن غاب غاب معه الإصلاح المأمول.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!