-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لا مستقبلَ تحت الشمس

ناصر حمدادوش
  • 421
  • 0
لا مستقبلَ تحت الشمس

مرَّت علينا الذكرى الـ75 للنكبة، الموافِقة لـ15 ماي 1948م، وهي التي تفرض علينا الوقوف على أكثر الأسئلة إثارةً عن مستقبل الكيان الصُّهيوني، وقد ألَّف “النّتن- ياهو” رئيس وزراء هذا الكيان سنة 1993م كتابه: “مكانٌ تحت الشَّمس”، وهو الكتاب الذي يتألَّف من 438 صفحة، والذي أعدَّه ليكون برنامجًا انتخابيًّا، معبِّرًا عن فلسفته السياسية وترتيب أولويات أوراقه التي يهتدي بها من أجل الوصول إلى الحكم لرسْم هوية الدولة العبرية الموشَّحة بالغطرسة والاستكبار.

وبالرغم من تلبُّسه بصفة “الرئيس الكارثة”، ذي النَّزعة اليهودية العنصرية المتطرِّفة، وبالرَّغم من الطابع الديمقراطي الذي أُريد التسويق له عن هذا الكيان السرطاني -غربيًّا- إلاَّ أنه استطاع الوصول إلى رئاسة الحكومة الصُّهيوينة سنة 1996م، وهو الذي يتَّهم اليساريين بأنهم “نَسُوا معنى أن يكون المرءُ يهوديًّا”، و”معنى أن تكون مفيدًا لليهودية”.

يمكن تصنيفُ هذا الكتاب، بحسب الأطروحات الواردة فيه، ضمن الواقعية السياسية المتطرفة، وهي الواقعية الهجومية، بعد أن جمع كلَّ مظاهر التطرُّف، ولمْلَمَ غوغاء الماضي اليهودي بتزوير التاريخ وتطويع الجغرافيا، عن طريق بكائية مأساة الشَّعب اليهودي إبَّان الحكم النازي على يد “هتلر” من أجل كسب تعاطف الدول الغربية وابتزازها، باعتبارها مسؤولة عن مأساة “الهولوكوست” المزعومة.

ومع أنَّ الشَّعب العربي عمومًا والفلسطيني خصوصًا ليست له علاقة بتلك المحرقة المبالغ فيها إلاَّ أنَّ شُذَّاد الآفاق يدَّعون أحقية الشَّعب اليهودي في أرض فلسطين، وهو ما دفع بهذا “النّتن- ياهو” إلى بذل جهدٍ كبيرٍ في كتابه لخلط أوراق التاريخ والجغرافيا والتوراة والتلمود لاغتيال الحقيقة، ومع ذلك فإنَّ قارئ هذا الكتاب يشعر بحجم القلق الذي يسكن عقل المؤلِّف مما يعتبره الخطر الوجودي الذي يهدِّد مستقبل الكيان الصُّهيوني، ولذلك سطَّر هذا الكتابَ للبحث عن “مكانٍ تحت الشَّمس”.

أيُّ مستقبلٍ لهذا الكيان؟

لا يملك الكيانُ الصُّهيوني وجودًا ذاتيًّا أصيلاً، فهو كيانٌ هجينٌ ولقيط، يقوم أساسًا على تهجير اليهود المشرَّدين في العالم إلى أرض فلسطين، كما قَضَى القَدَرُ الإلهي على بني إسرائيل في قوله تعالى: “وقَطَّعناهم في الأرض أمَمًا..”(الأعراف: 168)، وقد نشأ هذا الكيانُ على أحلام “زعيم الصُّهيونية” اليهودي “تيودور هرتزل” في “مؤتمر بازل” السويسرية سنة 1897م، و”وعد بلفور” رئيس الوزراء البريطاني سنة 1917م، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم: 181 بتاريخ: 29 نوفمبر 1947م، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، وبرغم مرور 75 عامًا على قيام هذا الكيان إلاَّ أنه لم يستكمل شروط الدولة العضو في الأمم المتحدة، إذْ لم يعترف بقيام دولةٍ فلسطينية وفق القرار الأممي المشؤوم، ولا يمتلك في ملف عضويته خارطةً جغرافيةً نهائية، بل لا يملك دستورًا أصلًا.

ومع أنَّ هذا “الكيان اللَّقيط” هو أهمُّ مشروعٍ أمريكيٍّ في القرن العشرين، وهو من أهمِّ نتائج الاستعمار الغربي للعالم العربي، وهو الوسيلة التي أبْقته في حالة التبعية والتخلُّف، إلاَّ أنَّ سؤالاً جوهريًّا لا يزال يتردَّد صداه في العالم عن مستقبل إسرائيل، وأنَّ هاجس الشَّك بنهايتها ليس مجرد أمنيةٍ رغائبيةٍ لأعدائها، بل هو شعورٌ يضرب بجذوره في عمق الوجدان الصهيوني، بأنهم يَسبَحون ضدَّ حركة التاريخ وقوانينه، فهو هاجسٌ مركزيٌّ متأصِّل صهيونيًّا منذ البدايات الأولى لهذا الكيان، فقد كان “ديفيد بن غوريون” أوَّل رئيس وزراء له يردِّد قوله: “ستسقط إسرائيل بعد أول هزيمةٍ تتلقَّاها”.. فالقلق من “زوال إسرائيل” هو يهوديٌّ ذاتيٌّ بامتياز، يُؤسَّس على حالة الشكِّ في مستقبلها كدولةٍ يهودية؛ فهذا رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق “إيهود باراك” يؤكِّد في مقالٍ له في صحيفة “يديعوت أحرنوت” بمناسبة الذكرى 74 لقيام إسرائيل العام الماضي أنه: “على مرِّ التاريخ اليهودي لم تعمِّر لليهودِ دولةٌ أكثر من 80 سنة إلا في فترتين، وكلتا الفترتين كانت بداية تفكُّكها في العقد الثامن، والدولة العبرية الصهيونية الحالية في عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنة العقد الثامن.

هذا التدميرُ الذاتي دفع برموز هذا الكيان إلى دقِّ ناقوس الخطر الوجودي، فهذا الرئيس الصُّهيوني “هرتسوغ” يقول: “ما يحدث كارثةٌ حقيقيةٌ، وبلادنا تنهار أمام عينيّ”، ويضيف “الوضع يتَّجه إلى نقطة اللاعودة، وإسرائيل تمرُّ بأزمة تاريخية تهدِّد بتدميرها من الداخل”.

* التدمير الذاتي.. واختلال التوازن بين اليهودية والديمقراطية:

جذور شبح “الحرب الأهلية” داخل الكيان الصهيوني تعود إلى سنة 1995م عندما اغتال اليميني المتطرِّف “إيجال عامير” رئيسَ الوزراء “إسحاق رابين”، إذ يؤكِّد الخبراء بأنَّ الحروب الأهلية تبدأ تاريخيًّا بالاغتيالات رفيعة المستوى، ولكنها تستغرق وقتًا لتتطوَّر إلى صراعٍ شامل، وربما لا نبالغ إذا قلنا إنَّ مصطلح “الحرب الأهلية” هو الأكثر شيوعًا في الخطاب الصُّهيوني الآن، بعد أن تأجَّجت نيران الصِّراعات الداخلية بين “الدولة العميقة” العلمانية و”التيار الدِّيني المتصاعد”، إذْ لا تُخفى تلك النَّزعة الدِّينية المتنامية داخل الكيان الصُّهيوني، والمتمثلة في قوة الأحزاب اليمينية والدينية المتطرِّفة، والتي استطاعت تشكيل حكومةٍ صهيونيةٍ جديدةٍ بزعامة “نتنياهو” في ديسمبر 2022م، وهي الأكثر تطرُّفًا في تاريخ هذا الكيان العنصري، وبالرَّغم من الأغلبية البسيطة التي يتمتعون بها (64 مقعدًا في الكنيست من أصل 120 مقعدًا) إلاَّ أنها تمكِّنهم من تمرير التشريعات والقوانين التي تعكس إيديولوجيتهم المتطرِّفة، إذْ يعتقد هذا التيار الديني أنَّ اليساريين والليبراليين الذين خسروا الانتخابات مستمرون في السيطرة على الإدارة والقضاء، وهو الاعتقاد السائد بوجود “دولة عميقة”، أي شبكاتٌ من الإداريين السِّرِّيين غير المنتخَبين الذين لديهم القدرة على تقويض عمل المسؤولين المنتخَبين، ويتحكَّمون في المشرِّعين والسِّياسيين، وهي الدولة العميقة التي اشتكى منها نتنياهو عام 2021م بما يعتقد أنه تعرَّض إلى مؤامرةٍ ضدَّه، والمتعلِّقة بمحاكمته في قضايا فسادٍ ورشوة، فقد أعلنت حكومة “نتنياهو” في جانفي 2023م عن “إصلاحات قضائية”، تشمل تقليص صلاحيات المحكمة العليا وإعادة هيكلة الجهاز القضائي، وذلك من أجل الحدِّ من سلطة المحكمة العليا، ومنها النظر في مدى دستورية القوانين التي تصدرها الحكومة وصلاحية إلغائها، ومنح الحكومة صلاحياتِ تعيين وتغيير تركيبة المحكمة العليا، والحدِّ من صلاحيات المستشارين القانونيين في القطاعات الوزارية، وحماية “نتنياهو” وحلفائه من المتابعات القضائية، وهو ما تراه المعارضة اليسارية انقلابًا ومحاولةً لتحويل الكيان الصُّهيوني من ديمقراطي إلى دكتاتوري، لأنَّ إضعاف المحكمة العليا هو تقويضٌ لأسس الديمقراطية التي يتباهى بها أمام الغرب الدَّاعم له، وهو فسحٌ لمجال هيمنة الجماعات الدِّينية على المؤسَّسات الرَّسمية، بما سيؤدِّي إلى إعادة تشكيل هويَّة الدولة، بعد أن تأسَّس هذا الكيان على أساس التوازن بين اليهودية والديمقراطية، وهو الآن يخسر ذلك التوازن بسرعةٍ فائقة، وهو تتَّجه نحو تدمير ذاته.

هذا التدميرُ الذاتي دفع برموز هذا الكيان إلى دقِّ ناقوس الخطر الوجودي، فهذا الرئيس الصُّهيوني “هرتسوغ” يقول: “ما يحدث كارثةٌ حقيقيةٌ، وبلادنا تنهار أمام عينيّ”، ويضيف “الوضع يتَّجه إلى نقطة اللاعودة، وإسرائيل تمرُّ بأزمة تاريخية تهدِّد بتدميرها من الداخل”، ويقول الرئيس السَّابق لجهاز المخابرات الداخلية (الشَّاباك) في أكتوبر الماضي في مقالٍ له في صحيفة “يديعوت أحرونوت” بعنوان: “على شَفَا حربٍ أهلية”، ووصف “نتنياهو” يوم 27 مارس 2023م قرار تأجيل تلك الإصلاحات القضائية بأنَّه “فرصةً لتجنُّب حربٍ أهلية”، كما عبَّر وزير الدِّفاع السَّابق “بيني غانتس” عن خشيته من اندلاع حربٍ أهليةٍ تؤدِّي إلى تفكُّك إسرائيل من الداخل، وهو ما يتوافق مع ما توصَّلت إليه مراكز الدراسات الصهيوينة بأنَّ هذا الاختلال الخطير بين اليهودية والديمقراطية يؤكد بأنَّ المجتمع الصُّهيوني قد دخل في حالة صراعٍ غير مسبوقةٍ على هوية الدولة، وأنَّ المشروع الصُّهيوني لن يعود إلى ما كان عليه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!