-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لهذه الأسباب يهاجر شبابُنا

لهذه الأسباب يهاجر شبابُنا

كنت قد حضرتُ ذات مرة ندوة نظمتها إحدى الجامعات الجزائرية حول الهجرة غير النظامية –السرية- وخطورتها. وكان جلّ المتدخلين في هذه الندوة من طلبة الدكتوراه تخصص علم الاجتماع. وما لفت انتباهي في مداخلات هؤلاء الطلبة، أن أغلبيتهم أو كلهم، كانت كلماتهم تبدأ بهذه الجملة أو ما يشابهها: إنّ مشكلة الهجرة السرية.. لقد أصبحت الهجرة السرية تشكل مشكلة كبيرة!.

وحينها بدأتُ وأنا في أجواء تلك الندوة أطرح تساؤلات مباشرة على نفسي: هل حقا تعتبر الهجرة عموما مشكلة؟ هل الشاب الذي يهاجر إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، تعتبر هجرتُه بداية مشكلة أم تعتبر بداية حلول لعدة مشاكل؟!.. وأنا أطرح هذه الأسئلة تذكرت فكرة قيّمة كان قد تناولها عالم الاجتماع الجزائري عبد المالك صياد (1933-1998) رحمه الله وهو المختص في هذا الموضوع، عندما أكد على أنه من أجل مساعدة المهاجر إلى البلد الجديد حتى يتكيّف مع محيطه الجديد، لابد من معرفة الثقافة الأصلية التي ينحدر منها. وهكذا قلت: من أجل معرفة إن كانت الهجرة تعتبر حلا أم مشكلة، لابد من العودة ومساءلة المهاجر وليس طرح تخمينات قد تكون الإجابة عليها بعيدة عن التفسير والتحليل الحقيقي للظاهرة.

وجلّ من كتبوا حول ظاهرة الهجرة عموما وغير النظامية خصوصا، أجمعوا على أن الدافع الأساسي للهجرة هو العامل الاقتصادي، والحقيقة قد تكون بعيدة عن هذه الفرضية غير المتحقَّق منها، فقد يكون الهدف المعلن هو: الفقر، التهميش، والمستقبل الغامض.. لكن حتما هناك أهدافا أخرى كامنة لا يمكن معرفتها إلاّ بدراسات سوسيولوجية ونفسية شاملة لظاهرة الهجرة ولحب وعشق أغلبية الشباب للعيش في دول الغرب على البقاء في بلدانهم الأصلية.

وحتى لا أتوسّع كثيرا في هذا الموضوع الشائك، والذي يتطلب دراسات وأبحاثا ونقاشا واسعا مع كل الفاعلين بما في ذلك من استقروا في الضفة الأخرى، سأكتفي بما ذكرتُ سابقا وسأحاول مناقشة بعض الأفكار والتساؤلات بما عايشته وعرفته وتناقشت فيه مع مهاجرين من مختلف البلدان خاصة العربية وبالأخص الجزائرية، خاصة وأنا كذلك مهاجر في بلد أوروبي منذ أكثر من عقدين من الزمن.

أولا: القول إن الهجرة سواء أكانت نظامية أو غير نظامية -سرية- بأنها مشكلة فهذا حكمٌ غير صحيح، لأن أغلبية من هاجروا وعندما استقر بهم الحال ووجدوا عملا وسكنا أصبحوا عامل بناء لأسرهم وعائلاتهم في الوطن الأصلي، وذلك من خلال توفير السكن والإعانة المالية بمناسبةٍ أو غير مناسبة، وهناك من توسّعت خيراتُهم لتمس الأصدقاء والجيران والفقراء. فكيف يمكن أن نقول بأن الهجرة تعتبر مشكلة في هذه الحالة؟ وكيف يمكن أن نُقنع المهاجر الذي يقدِّم لغيره كل هذه المساعدات بأنه أحدث مشكلة لغيره ولوطنه؟!.

ثانيا: إنّ إرجاع سبب الهجرة إلى العامل الاقتصادي، من عوز وتهميش وعدم وضوح الرؤية ناحية المستقبل، يعتبر كذلك تحليلا قاصرا وناقصا وغير دقيق، والسبب أننا نجد من بين المهاجرين أغنياء، وحالتهم الاقتصادية ميسورة، ولو بقوا في بلدانهم كانوا سيعيشون معيشة مستقرة ومطمئنة مقارنة ببقية أترابهم وأصدقائهم وجيرانهم. من جهة أخرى، لو كانت فرضية العامل الاقتصادي صحيحة، لماذا عندما يستقرُّ المغترب في ديار الغربة، وتتحسَّن ظروف معيشته، ويؤسس لمستقبل جيد من الناحية المادية، لا يعود إلى وطنه الأصلي ويواصل حياته في بلده الذي غادره بسبب الفقر والحاجة؟!.

ولهذا فإنني أقول إنّ أسباب أخذ خيار الهجرة سواء أكانت هجرة نظامية أو غير نظامية، يعود لعدّة أسباب، أوجز بعضها في هذه النقاط:

فعلُ الهجرة خاصة بالنسبة للجزائريين هو ثقافة متوارثة منذ القِدم، فالجزائري مارس فعل الهجرة منذ غابر الأزمان وأثناء فترة المستدمر الفرنسي وبعد الاستقلال ويوم كان البلد مستقرا ماليا والعيش فيه رغيدا وأيام الأزمة الاقتصادية. في الجزائر هناك قرى بأكملها تجد من كل عائلة فيها على الأقل مهاجرا واحدا، إذن ففعل الهجرة مترسِّخ في الذاكرة الجماعية، وقد يزيد وينقص حسب الظروف. وثقافة فعل الهجرة في اعتقادي سيزداد مع مرور الوقت، خاصة في هذا العالم الذي نعيش اليوم، مع توفر الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي وإمكانية دخول الفرد الجزائري في تواصل مع شباب من دول أخرى توفرها هذه المنصَّات، وكذا النشاط اليومي الجذّاب والمغّري الذي يُظهره بعض المغتربين من خلال الصور والفيديوهات التي ينشرونها عبر الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي.

ثقافة فعل الهجرة في اعتقادي سيزداد مع مرور الوقت، خاصة في هذا العالم الذي نعيش اليوم، مع توفر الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي وإمكانية دخول الفرد الجزائري في تواصل مع شباب من دول أخرى توفرها هذه المنصَّات، وكذا النشاط اليومي الجذّاب والمغّري الذي يُظهره بعض المغتربين من خلال الصور والفيديوهات التي ينشرونها عبر الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي.

عامل البحث عن فرص النجاح، إن أهمّ ما يجذب في العالم الغربي هو توفر فرص النجاح، وإمكانية الارتقاء الاجتماعي، فالمهاجر في الغرب يجد عند وصوله إلى البلد المستقبِل سلما أو نظاما –وهي خطة ذكية- إذا ما اتبعه بجدية وتفان فإنه حتما في وقت وجيز سيحقق هدفه من هذه الهجرة، والبلد الذي لا يتوفر على هذا النوع من النظام سيكون طاردا لشبابه، فشبابُ اليوم يتمتع بميزة ربما لم تكن متوفرة بشكل لافت في الأجيال السابقة، وهي الرغبة في تحقيق الذات والارتقاء الاجتماعي، وقد لاحظنا هذا النوع من الطموح والإقدام مؤخرا حتى في الانتخابات التشريعية السابقة التي عرفتها الجزائر، طموح ورغبة في البحث عن المكانة بشكل ملفت للنظر.

ومن أسباب الهجرة كذلك عوامل الطرد التي تتميز بها بعض البلدان، مثال ذلك: غياب الحريات، طغيان الضمير الجمعي الذي يريد أن يجعل من الأفراد متماثلين، لا يؤمن بالتمايز الفكري والنفسي ولا يعير أدنى إهتمام للرغبات والميول والطموح. المدن وثقافة المدن، والتي لا ندري هل هي مدن حقيقية كما هو معترفٌ به لدى كل المجتمعات أم أنها أرياف قد تمدَّنت؟ فمن غير المعقول مثلا أن تجد الخدمات قد توقفت عند الساعة السادسة أو السابعة مساء في المدن الكبرى الجزائرية فما بالنا بالصغرى منها، هذه الممارسات وهذا النظام في هذا الزمن المتحرك بسرعة يُشعر الأفراد وكأنهم في سجن كبير، أو كأن مدنهم عبارة عن مراقد وفقط.

كما أنه من بين أسباب الهجرة خاصة غير النظامية منها، هو الظلم الذي تمارسه الدول الأوروبية دون استثناء بمنعها إعطاء التأشيرات لدخول أراضيها، وهنا لابد أن نشير إلى أنه حسب ميثاق حقوق الإنسان فالإنسان له الحق في الهجرة والإقامة في أي بلد يريد، لكن المشكلة بأن شبابنا يُمنع حتى من حق السفر إلى هذه البلدان، ولهذا فهي تتحمَّل إنسانيا وأخلاقيا وحتى قانونيا مسؤولية ما يحدث لشبابنا من وفيات بسبب الغرق في عرض مياه البحر. لو كانت التأشيرات سهلة المنال فربما اكتفى العديد من الشباب بمجرد السفر إلى هذا البلد أو ذاك لتنطفىء جمرة الشوق للاطلاع إلى عالم ما وراء البحار وبالتالي الاستقرار في وطنه.

إذن، فإشكالية الهجرة عموما هي إشكالية متشعِّبة ومعقدة، تتطلب دراسات مسؤولة وموضوعية، لتجيب عن كل الأسئلة العالقة في عقول المختصين وحتى في عقول كل من يتوق إلى الهجرة. لابد من دراسات تجيب عن أسئلة وليس تلك التي تفرض أجوبة السياسيين وبعض الفاعلين الإنتهازيين، دراسات تتطّلع إلى الواقع لتفككه من الناحية الاجتماعية والنفسية من دون عزله عن هذا العالم المترابط، وهنا لابد أن نؤكد على مسألة جد مهمة، فمهما كانت نتائج هذه الدراسات، واستطاع المختصون الإلمام بهذه الظاهرة، إلاّ أن المؤكد في الأمر أنه يمكن حصرُ هذه الظاهرة أما توقيفها فهو أمرٌ مستحيل، كما أنه من الظلم ومن غير الوعي وصف المهاجرين أو من يريدون الوصول إلى الضفة الأخرى بأنهم قليلو الوطنية، فالوطنية حسب ما عايشته قد تنبت وتزهر وتؤتي أكلها من ديار الغربة، فهناك فقط ندرك حجم ظلمنا وتفريطنا في هذا الوطن العزيز.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!