-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مدخل إلى مسار ثورة وتصرفات الأشخاص

التهامي مجوري
  • 1619
  • 0
مدخل إلى مسار ثورة وتصرفات الأشخاص

الثورة هي تغيير جذري مفاجئ وسريع بعيد الأثر في الكيان الاجتماعي بإزالة واقع قائم وإعادة تنظيمه، ببناء نظام اجتماعي مغاير.

والتغيير الجذري بعيد الأثر وبناء النظام الاجتماعي المغاير، لا يتحقق بالحراك الجزئي والفئوي والحزبي، وإنما يتحقق بالجهد الجماعي الشامل، الذي تشارك فيه جميع قوى المجتمع، ولذلك كانت كلمة الشهيد العربي بن مهيدي رحمه الله “القوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب” بعيدة الأثر في نفوس الثوار وسائر الشعب في ثورتنا المباركة في سنة 1954، والفعل الثوري المفاجئ لا يعني أنه يكون عفويا بلا مبررات وأهداف، وإنما يكون  وفق شروط معينة لإنجاحه وانتفاء موانع له من تحقيق أهدافه، كأن يكون هناك مستوى معين من التذمر العام، يدفع بالمجتمع إلى إرادة التخلص منه، واستجابة بمستوى من القوة والفاعلية لإزالة كل مضادات أهدافه القريبة والبعيدة .

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه في الثورات التي قامت في العالم عموما، ومنها ثورتنا المباركة التي نحيي ذكراها الواحدة والستين لاندلاعها، هل حققت الثورات أهدافها وغاياتها؟ وإذا لم تحقق غاياتها فما هي الأسباب المانعة لها من ذلك؟ وهل هذه الأسباب ذاتية أم موضوعية أم هي خارجة عن نطاق الذات والموضوع أصلا؟

إن الثورات في التاريخ -في مجملها- قد حققت مكاسب هامة، مما كانت تهدف إليه، سواء لعدالة قضيتها أو بطبيعة المرحلة أو بسبب قوتها المؤثرة، ومع ذلك تعثرت –على الإجمال- في الكثير مما أرادت تحقيقه، واهم ما تعثرت فيه، ثلاثة مجالات هامة:

 -1أنها لم تخطط لحماية مكاسبها بالقدر الذي اهتمت فيه بالحرص على اندلاعها. والمكسب إذا لم توضع له خطط لحمايته، فإن المكسب نفس يضيع او يكاد، وتحقيق مكسب ما قد يكون أسهل من المحافظة عليه؛ لأن المكسب قد يتحقق بضربة ما سريعة وفي لحظة تاريخية ما؛ وربا يكون صدفة أصلا، قد لا تكلف كثيرا، ولكن الحفاظ عليه يتطلب الكثير من الحذر والحيطة، من المؤثرات النفسية والاجتماعية والمادية والقوى المضادة؛ لأن المجتمع الذي ألف جوا معينا من الاستبداد والفساد، إما أنه يشعر بمجرد زواله، أنه تحلل من التزامات الخضوع والانصياع، وبالتالي لا يكون ملزما بالخضوع لأي شيء، وليس بعد ذلك إلا الفوضى، وإما بتأثير الحرس القديم من رعاة الاستبداد والإستعمار والواقع المزال، وهنا تظهر ضرورة التخطيط للقوى المضادة وتقوية نهج الاطراد الثوري، فالموقف من الاستعمار ينبغي أن يستمر بنفس المستوى الذي كان قبل وأثناء الثورة، ولا ينبغي أن يتغير؛ لأن موقف الجزائري من فرنسا مثلا، هو موقف استهجان لفكرة اتسمت بالظلم والاحتقار للإنسان، وهي فكرة الاستعمار، وليس موقفا من المجتمع الفرنسي الذي قادته سلطته إلى أمر لا يمكن ان يجمع عليه.

 -2أن الثورات في الغالب لا تحافظ على مستوى اطرادها بالقدر الذي كان يتمتع به مفجروها؛ لأن السقف الذي انطلق منه مفجروها، أعلى من السقف الذي وضعه وارثوها، والسبب في ذلك أن اهتمامات الوارث غير اهتمامات المفجر. فمفجر الثورة لا يشعر بحاجة غير حاجته لإزالة الواقع الذي يعيشه، استعمارا أو نظاما مستبدا أو نظاما متخلفا.. اما الوارث فقد تحقق له ذلك، وإنما ما ينبغي عليه فعله هو الانطلاق من هذا المكسب، ووضع أهداف جديدة ليستمر النفس الثوري بإزالة كل بقايا الاستعمار والاستبداد والفساد والجهل والتخلف، فتتحقق عملية التحيين والدخول في عالم التنمية، ولذلك نجد ان المجتمعات التي أخفقت فيها خطط التنمية بعد نجاح ثوراتها نسبيا، تتحدث عن المؤامرات والاختراق الاجتماعي؛ لأن القوى المضادة التي لا تلاقي من المعوقات الحامية للثورة، تفعل فعلها في المجتمعات بحيث تكون المجتمعات التي أنجزت ثورات هي نفسها التي تعمل على إبطال مفعولها بما ترتكب من حماقات.

ولتقريب الصورة وفق نظريتي ابن خلدون ومالك بن نبي في كيفية تفاعل الأجيال مع منتجاتها الاجتماعية وتفاعلها النفسي الثقافي الاجتماعي يمكن رسم تفاعل المجتمع مع الثورة كالتالي.

الجيل الأول وهو الجيل الممهد للثورة، الذي بنى الفكرة ودلل على صحتها، بحيث اجتمع سواد المجتمع على ضرورتها، أي أن فكرة الثورة نضجت بالقدر الذي يفرض الانتقال إلى الفعل، وهذا الجيل يمكن التمثيل له في ثورتنا المباركة بجيل العشرينات –بعد فشل المقاومة المسلحة-، إلى اندلاع الثورة.

الجيل الثاني، وهو جيل الثورة الذي فجر الثورة وحقق المكسب الرئيسي وهو الاستقلال، وقد كان يمثل الطاقة الفاعلة كما كان الجيل الأول يمثل الرؤية والتنظير لصحتها وصيغ تنفيذها، ولكنه لا يحمل شيئا من تصوره، أو ينتقل إليه التصور مشوها؛ بل ربما لا يعبأ بما فعل ذلك الجيل المؤسس لحركة الثورة، سواء كان من تيار العنف الثوري او كان من الإصلاحيين.

الجيل الثالث، وهو الجيل الوارث للثورة، قد لا يعلم شيئا عن الجيل الاول، وإذا علم شيئا منه، قد لا يصله كاملا، وذلك ينعكس على رؤيته للجيل الثاني فلا يدرك مكانته ولا فضله فيما تحقق من مكاسب، وإذا أدرك شيئا منه قد لا يكون وفيا له؛ لأن توارث الفعل الثوري مقطع الأوصال ولم يتوارثه كفعل متصل مطرد، بحيث تكون كل مرحلة لاحقة نتيجة طبيعية للمرحلة التي قبلها.

ويمكن حصر هذه الأجيال الثلاثة في المرحلة التاريخية ما بين 1916/1988.

فسنة 1916 هي نقطة التحول من المقاومة المسلحة التي أخفقت في تحقيق المطلوب كاملا، إلى العمل السياسي والإصلاحي الذي تلقفه الأمير خالد، وبنت عليه الحركة الوطنية قواسمها المشتركة فيما بعد، واستمرت هذه المرحلة إلى غاية 1936، حيث ظهر أول تكتل سياسي في الجزائر يكشف عن هَمٍّ جماعي للجزائريين، وكان مناسبا يومها ان تندلع الثورة سنة 1939، وفق النهج الثوري، مع الحرب العالمية الثانية، حيث كان الاستعمار منشغلا يومها بخصومه، إلى جانب اجتماع القوى السياسية على الهَمٍّ الجماعي قبل ذلك بقليل.

اما سنة 1954 فهي السنة التي اندلعت فيها الثورة، وقد استمرت إلى سنة 1988 ووفق المنطق الثوري، يمكنني أن أجازف بالقول إلى أن الثورة تأخرت عن موعدها الطبيعي الذي يقرره المنطق الثوري بـ 15 سنة. وعندما نقول أنها تأخرت عن موعدها، فمعنى ذلك أنها ضيعت فرصا كان يمكن ان تمكِّن المجتمع من الحصول على مكاسب أكثر، وكان يمكن ان تستفيد من استقلال دول المغرب الأخرى بشكل أفصل، كما كان يمكن أن تستقل قبلها، ناهيك عن الوضع الدولي الذي كان يسمح للجزائر بأن تبني نفسها بعيدا عن المؤثرات الدولية، وهذا التأخر  سيؤثر سلبا على مسار المجتمع في جميع مراحله اللاحقة بكل تأكيد.

أما المرحلة الأخير وهي المرحلة ما بين 1988 إلى اليوم، فهي مرحلة ورثة الثورة، فهي المحصلة الطبيعية للمسارات السابقة التي أورثت واقعا غير سوي، ليس بسبب المسار الثوري المفترض، الذي كان يمكن ان يسير عليه المجتمع خلال هذه المراحل كلها، وإنما بسبب انحرافات أخرى خرجت عن منطق الثورة والاطراد الثوري.

-3 الخلط بين الذاتية والطموح والتنافس، لدى القائمين على الفعل الثوري، من المسؤولين الرسميين والمنظمات الشعبية، وهنا نقف على أصل المشكلة في الانتقال من الفعل الثوري إلى تصرفات الأشخاص، وهي المشكلة القاضية على كل فعل ثوري؛ لأن القضية من حيث المبدأ، ان تصرفات الأشخاص إذا عزلت عن المحيط الثوري، كانت مضادة تماما للفعل الثوري؛ لأن الفعل الثوري جماعي ومنطلق من ثوابت يقينية مستقاة من هَمٍّ جماعي كُلِّي، اما تصرفات الأشخاص هي في أحسن الأحوال اجتهادات وتطبيقات جزئية لا ترتقي إلى مستوى الانشغال بهَمِّ الجماعة، ولذلك كانت القيادات الناجحة في الثورات، هي القيادات التي استطاعت تذويب القناعات الفردية في إطار جماعي وحمل الجماعة عليه.

إن عناصر الإخفاقات الثلاثة المذكورة وحدها كفيلة بالقضاء على أهم المكاسب الثورية، ألا وهي روج الجماعة، قولا وعملا وسلوكا.

أردت لهذا المدخل بطوله أن يكون معيارا للنظر في منعرجات ثورة أضحت معلما عالميا وقدوة ومواساة للشعوب المستعمرة والمحبة للسلام، وعلاقتها بتفاعل وانفعالات أهلها من الذين صنعوها أو شاركوا فيها او ورثوها، وآثار كل ذلك على واقعهم المعيش، سواء في صراعهم أثناء الثورة بين ما هو عسكري وما هو سياسي، وأثر الأيديوليوجيا في ذلك، أو في نزاع الجيش مع الحكومة مع بداية الاستقلال، أو في الصراع بين الترشيح الطبيعي لبوتفليقة ويحياوي، وترشيح السلطة للشاذلي بن جديد، خليفة لبومدين، أو في السلطة الفعلية على الإرادة الشعبية 1992، دخول البلاد النفق الذي لا تزال تعاني آثاره المدمرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!