-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مدرستُنا واليدُ الخفية

عيسى جرّادي
  • 316
  • 0
مدرستُنا واليدُ الخفية

إن كانت اليد الخفية لا تُرى، كونها لا تعلن عن نفسها مباشرة، ولا تتجلى بأشخاصها في الواجهة، فهي في الواقع  قائمة لا يمكن إنكارها، موجودة ولا تكاد تغيب عن المشهد،  كائنة ويمكن رصدها في خلفية الصورة، كما يمكن تتبع خيوطها الخفية إلى مكامنها.

هذه اليد الخفية التي اصطلح عليها الاقتصاديون،  وقالوا إنها تنظم السوق آليا، ويعنون بها قانون العرض والطلب، يبدو أنها وسّعت نطاق نشاطها لتستوعب قطاعات لا تنتج السلع المادية، بل تُعنى بإنتاج العقول والمعارف والسلوكيات، ومنها المدرسة بوجه خاص.

هذه اليد الخفية، لا تُرى لأنها تستخفي عبر شبكة من مراكز القوة المؤثرة، وتتجلى عبر شعارات ومطالب يبدو ظاهرها موضوعيا أما باطنها فيحتضن قنابل موقوتة، وتظل هذه اليد بمثابة المجهول الراسخ في معادلة المدرسة الجزائرية، المجهول الذي بقي مستعصيا إلى اليوم، وتعذَّر تعيين جذره الأصلي!

غالبا ما يتساءل الناس: ما الذي يكبح مدرستنا ويعيق انطلاقها وتفوقها؟ ما الذي يحكم عليها في كل مرة بالتراجع عن مكاسبها مهما بدت متواضعة؟ ما الذي يبقيها في حالة  ذعر غير مبرر وعدم استقرار مزمن؟ من يتهمها بصناعة وتكريس الفشل العلمي والأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي، بل وإرباك الدولة ومؤسساتها؟ من الذي يثير الشبهات حول وظيفتها الحضارية والأخلاقية؟ من الذي يسعى في جرها بعيدا عن أهدافها وغاياتها المعلنة في النصوص الرسمية للدولة الجزائرية؟

أسئلة عديدة قد لا تلقى أجوبة مقنعة، لكنها مثابة هاجس يلاحق من يعنيه شأنُ هذه المدرسة ومستقبلها، الذي هو مصير مجتمع برمته، وهذا ما أبسط الحديث عنه، من خلال مثال أسوقه في هذا المضمار لإبراز حركة اليد الخفية، والمقصود هو “قانون تعميم استعمال اللغة العربية”  المعطل: فمن الذي أقنع رئيس المجلس الأعلى للدولة الراحل بوضياف بتجميده؟ من قال له إن الظروف غير ملائمة لتطبيقه؟ من أوحى إليه أن يتخذ قرارا يناقض خلفيته الثورية والوطنية، إذ كان جديرا أن يحرص على تفعيل هذا القانون لا تجميده؟

القانون معطل، وفي سابقة غريبة لم تسجَّل في أي دولة، إذ كان من المفروض أن يصبح ساري المفعول بتوقيعه من قبل رئيس الدولة، وإذا ما اقتضى الأمر أن يعاد النظر فيه تعديلا أو إلغاء، فلا أقلّ من أن يعرض على الجهة التي أصدرته.. غير أن ذلك لم يتم، وما زال هذا القانون المحبوس مجمَّدا إلى اليوم، من دون أن تمتد يد المحكمة الدستورية إلى فاعل أو متهم بعينه، والسؤال هو: من ذا الذي يجرؤ على اقتراف فعل شنيع كهذا؟ أليست اليد الخفية التي تلقفت الفرصة وأجهزت على القانون، لا بقتله مباشرة، بل بحبسه في زنزانة التجميد، ومنع إطلاق سراحه إلى أجل غير مسمى، لينتهي مجرد مستحاثّة تاريخية فقدت صلتها بالحياة؟!

هذا مثالٌ واحد فقط يرجِّح فرضية اليد الخفية، ومن ثم يمكن رصد حركتها عندما يتعلق الأمر بتعطيل النصوص الناظمة للمدرسة الجزائرية، وأنت تقرأ هذا العنوان (أنقذوا المدرسة) كما ورد في صحيفة تُنشر بالفرنسية، تعليقا على نتائج أشغال “اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية”، تجد الكاتب يشير –بإيعاز من اليد الخفية– إلى إدراج اللغة الفرنسية في السنة الثانية ابتدائي، وإلى إحلال ما سمي “التربية المدنية والأخلاقية والدينية” محل التربية الإسلامية، وإجبارية تدريس اللغة الأمازيغية في المناطق الناطقة بالبربرية خلافا للمناطق الناطقة بالعربية!.. وفي هذا كله توجيه للنتائج غير المعلن عنها ومحاولة تبريرها مهما كان الأمر، وليس أخطر من ذلك كله إشاعة تصنيف عرقي- لغوي يقسّم الجزائريين، وهذا كله مجرد مقدمة لما سيأتي لاحقا.

وقع “مواطنون ومواطنات” دعوة لنقاش أرضية تتعلق بمدرسة عصرية وجمهورية تتهم المدرسة بأنها (لم تكوِّن مواطنين فخورين بتاريخهم وشخصيتهم ومستعدين لتحمل مسؤولياتهم كإطارات للبلاد في المستقبل، وواعين بحقوقهم وواجباتهم في دولة جمهورية عصرية وديمقراطية، بل عملت على عدم تفتُّح الأطفال وعرقلت عمليات جمع وإنتاج المعرفة التي تحتاج إليها الجزائر، كما أنها ساهمت في استلاب أجيال بأكملها).. فمن هم هؤلاء “المواطنون والمواطنات”؟ لا أحد يعلم سواهم!

مثالٌ آخر يبرز من خلال صحيفة تكتب بالعربية، لكن بمضمون تغريبي، نقرأ في مقدمة إحدى المقالات.. (لم تواكب المدرسة الجزائرية الدفع العصراني والتحديثي الذي يعرفه العالم اليوم. إنها تعيش في عزلة بعيدة عن البعد العالمي– الإنساني، فمدرستنا لم تعرف الثورة على القديم والتقليدي، بل أعادت إنتاج كل ما هو ماض وقديم، وأصبحت تتشبّث بالعقلية التقليدية إلى حد المرض، هذه العقلية التي أفرزها التردد في طبيعة المشروع المجتمعي الذي كان على الجزائر إتّباعه غداة الاستقلال!)، من يقف وراء هذا التهجم الذي يسيء إلى ملايين الأسر الجزائرية وملايين التلاميذ، ومئات آلاف المعلمين والأساتذة؟ الراجح أنك لن تعثر على اسم بارز بعينه، أو جهة معلومة العنوان، غير أن اليد الخفية بادية بوضوح، فهي التي تقترح ما يجب أن يُكتب عن المدرسة، وهي التي توجِّه وتوفِّر الحماية لمن يكتب.

بهذا المعنى، تصبح اليد الخفية، سواء مارست دورها في الإعلام أو في الإدارة أو في الفضاء الثقافي، أو في أي مركز قوة وتأثير، هي المحرِّك الذي يدفع الأشياء إلى الأمام أو يعيدها للخلف أو يلغيها إن شاء، أما الواجهة فتتكفل بإبراز من لا يملك أيَّ صلاحية، ولا يتحمل أيَّ مسؤولية جزائية أو حتى أخلاقية، حتى لا يشار إليه باعتباره المتهم، خاصة عندما يوقع “مواطنون ومواطنات” دعوة لنقاش أرضية تتعلق بمدرسة عصرية وجمهورية تتهم المدرسة بأنها (لم تكوِّن مواطنين فخورين بتاريخهم وشخصيتهم ومستعدين لتحمل مسؤولياتهم كإطارات للبلاد في المستقبل، وواعين بحقوقهم وواجباتهم في دولة جمهورية عصرية وديمقراطية، بل عملت على عدم تفتُّح الأطفال وعرقلت عمليات جمع وإنتاج المعرفة التي تحتاج إليها الجزائر، كما أنها ساهمت في استلاب أجيال بأكملها).. فمن هم هؤلاء “المواطنون والمواطنات”؟ لا أحد يعلم سواهم.

في هذا المضمار المفتوح على صراع إرادات سياسية وثقافية بالدرجة الأولى، بين من يريدها مدرسة أصيلة ومن يسعى في تغريبها، تقف المدرسة الجزائرية في مواجهة هذه اليد التي يمكن تعقّب أثرها إلى كل قرار تنتكس به المدرسة، فيعطّل سيرها ويزرع فيها ألغاما يقتضي تفكيكُها جرأة وحكمة وربما تضحية.

الخلاصة، لا يمكن المدرسة الجزائرية أن تنتعش وتؤتي حصادها الوطني، إلا بكفِّ هذه اليد عن الامتداد إليها، وهي اليد التي تنتهي بدورها أداة في يد أخرى ربما عبرت الحدود، وعند هذا الحد، سيعبر بنا السؤال إلى نطاق جديد هو: هل المدرسة جزء من السيادة الوطنية أم لا؟

للمقال مراجع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!