-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مفارقة العصر: تكنولوجيا حاكمة بلا حضارة

مفارقة العصر: تكنولوجيا حاكمة بلا حضارة

أخذت العلاقات الدولية المعاصرة شكلا جديدا في ظل انفجارات الثورة التكنولوجية والثورة المعلوماتية الهائلة، ولم تأخذ شكل صراع فكري كان قائما على تناقضات عقائد فكرية، فالصراع الراهن هو صراع التسابق نحو إحداث قفزة تكنولوجية تعزز مكانة الدولة وتفرز تأثيرها الفاعل في موازين السياسة الدولية التي تعاني من غياب العدالة في التعامل مع حقوق الدول والشعوب، والشكل يضحى دائما في تركيبة اقتصادية تحدد أبعاد المنهج السياسي الحديث.
انتهى صراع الأضداد بأشكاله الفكرية وأفلت العقائد النظرية، وودع معتنقوها زمنهم وسلموا ما بقي من وثائقهم التاريخية لمراكز الأرشيف، وحطم المتمردون الجدد أصنامهم، وأحرقوا كتبهم ودمروا جدارياتهم الحاملة لشعارات جوفاء أثبت العصر انعدام جدواها، واستحالت منتدياتهم إلى خمارات شعبية ومقاه رخيصة للعب القمار، فالتكنولوجيا ابتلعت كل شيء حي بمعناه الروحي، وأعدت المكان لمادة تشغل حيزا في فراغ ولها وزن، قانون فيزيائي مادي ينتصر على نظريات فكرية لم تر النور إلا في مخيلة معتقديها..

هذا هو العقد، عقد العلم والتكنولوجيا.. التكنولوجيا هي المؤشر الأهم لتقدم أية دولة، بل هي المتغير الذي يحكم الصراع الدولي، دون إيلاء اهتمام لأية قيمة حضارية.

لقد أدركنا زمن خسارة الصراع الإيديولوجي قبل بلوغ نهايته ليظهر الصراع التكنولوجي/المعلوماتي، الصراع الأوحد في قانون العلاقات الدولية.

وإذ شهدنا ما حل بالعقيدة الماركسية التي تمثلتها الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفياتي / سابقا / في صراعها التاريخي مع الرأسمالية وجدنا أن المعسكر الاشتراكي بكل قواه التقليدية لم يصل نهايته إلا بعد أن هدأت ثورة ما كان يفاجئ العالم بها من انجازات تكنولوجية، يحسب المعسكر الرأسمالي لها ألف حساب فيميل إلى وتيرة الحرب الباردة.
فحين كان الاتحاد السوفياتي يفاجئ العالم بريادة الفضاء ويتقدم بأبحاثه الفضائية التقنية كان كل شيء متوازنا، رغم اكتشاف التهيؤ للردة في “معتقلات” المعسكر الاشتراكي.. وإذ يصل الخط البياني التقني مستوى الاستقرار النسبي أو “الجمود” تجد العقيدة الماركسية نفسها في اختبار إيديولوجي..
والإيديولوجية هنا لم تكن في مستوى الصراع الدولي التكنولوجي، فبدأ الاتحاد السوفياتي يتصدع، ثم ينهار، وبعد أن كان نظام القطبين صار نظام القطب الواحد وظل العالم ينتظر القوى العالمية البديلة في مواجهة الولايات المتحدة.
فقد أسدل الستار وإلى الأبد على الصراع السوفياتي ـ الأمريكي وبشكل آخر الصراع الاشتراكي ـ الرأسمالي.
إن أية دولة ترغب في دخول حلبة الصراع كقوة عظمى لابد أن تمتلك مستلزمات التفوق التكنولوجي والتمكن من قيادة ثورة المعلومات فانعدامها أو وفرتها تشكل عبئا على أصحاب القرار طالما وجدت أحداث العصر الضاغطة وأثرها الزمني.
فمعالجة المعلومات ذاتيا شيء وما تجهزه التكنولوجيا شيء آخر، لذلك لا يمكن الانسياق إلى التكنولوجيا بحد ذاتها لخدمة القرار، بل اعتمادها كوسيلة وليست هدفا بحد ذاتها مع الاحتفاظ بمبدأ أن يعد الإنسان لعصر تقني وأن تعد التقنية في خدمة الإنسان…
وما يحصل مع التطور التقني هو التغير المطرد في المحصلات النوعية والصور الشاملة في الحياة السياسية.. لكن مجريات التطور المنطقي أن تأخذ الحضارة الإنسانية السبق متمسكة بالمزيد من البحوث العلمية في المجالات الإنسانية المتعددة ورفع زخم الإبداع الإنساني الرفيع إلى المستويات التي تعزز من مكانة الإنسان وتمهد له طريق الرقي الأخلاقي والروحي والمادي.
لكن ما حصل ويحصل في العصر الراهن هو التراجع الحضاري والفكري لصالح التطور التكنولوجي المذهل.
دون شك أن الدول القوية هي التي تمتلك القدرات التكنولوجية الكبرى وهي صاحبة القرار السياسي المؤثر والنافذ، أما الدول الأقل تقدما على المستوى التكنولوجي فهي الأقل قوة وقرارها السياسي أقل فاعلية.
إزاء هذا المشهد المتغير ألا يبدو العالم الكوني وكأنه يعاني من ضعف أخلاقي حاد في ظل غياب الرادع الوجداني على المستوى الدولي وغياب مفاهيم العدالة وظهور المصالح الذاتية على حساب الحقوق الدولية؟!
لقد أفرزت الثورة العلمية والتكنولوجية الجديدة أوضاعا مختلفة في العالم ونوعية جديدة في العلاقات بين الدول، إذ ازدادت الهوة بين الدول الصناعية والدول النامية، وأثر البون العلمي والتكنولوجي على الدول وفق مستويات تقدمها، ومارست الدول المتقدمة تأثيرا شديدا يصل إلى حد الهيمنة والابتزاز للحصول على المواد الأولية ومصادر الطاقة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية..
وظلت البلدان المتقدمة تسعى إلى الحيلولة دون سعي الدول النامية لتطوير قدراتها من خلال امتلاك التكنولوجيا والتحكم بها، كما ظلت ترفض السماح بنقل التكنولوجيا إلا بالقدر الذي يبقي تلك البلدان في مستويات متدنية في تطورها الاقتصادي والتكنولوجي.
تطرح آفاق التطور العلمي والتكنولوجي على دول العالم العربي في ظل قانون العلاقات الدولية الراهنة، مهام تتصاعد خطورتها حضاريا ومصيريا، فهو المحاصر بتهديدات سياسية وعسكرية واقتصادية نظرا لموقعه الجغرافي الذي يتوسط كل القارات ولما يحتويه من ثروات هائلة ومواد أولية ومصادر للطاقة الوفيرة.
إن الأسلوب الأمثل في مواجهة هذه التهديدات التي لم تنقطع في أية مرحلة من مراحل التاريخ يتجسد في تصعيد القدرات الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والارتقاء بها إلى مستوى التحديات الراهنة وضمان وجود متميز في الخارطة العالمية التي فقدت توازنات القوى فيها.
ويمتلك الإنسان دون أدنى شك الإمكانيات المادية والبشرية لتطوير أوضاعه الحضارية في ظل احتدام الصراع مع القوى التي تسعى من أجل الإبقاء على حالته المتردية وتعزيز عجزه وشل حركته على طريق تجريده من مقومات الوجود الإنساني ورغم ذلك فإن الإنسان العربي لم يتوصل لحد الآن إلى الطريق الملائم في توظيف قدراته وتوجيهها نحو مواقع انطلاق الحضارة العلمية التقنية المعاصرة..
القوى العربية المشتتة.. تباعدت عن مستويات الوعي بمجريات العصر الراهن ولم ترتق إلى حدود القدرة النوعية في امتلاك أدوات الدفاع عن وجودها المهدد برمته تاريخيا وحضاريا ومستقبليا.
فالعربي المشتت يحيا في عالم كوني يتسم قبل كل شيء بالصراع بين الكتل الكبرى سواء كان هذا الصراع ظاهريا أو خفيا، وكسب حتميات الصراع التاريخي واسترجاع خصائص الحضور العربي الحي يحتم الارتقاء الموضوعي لمستوى إيجاد تكتل عربي يلغي حالة التشتت والتشرذم وتحويله إلى حركة جماعية دينامية متصاعدة تتحول إلى زخم واندفاع حضاري جارف في سياق الحضارات المتسارعة.
وهكذا فإن امتلاك أدوات التحول التكنولوجي والسيطرة المنطقية على ثروة المعلومات قد يحقق الارتقاء النوعي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال امتلاك مستلزمات التطور الحضاري الذي يمكنها من تحقيق الاستقرار والتقدم بخطى حثيثة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • صالح بوقدير

    العالم العربي تابع والتابع ليس له قرارمستقل فهو تحت الامر فهو لايستطيع تطويرأي شيء لإلا بقدر ما يؤمر به فهو يحتاج إلى التحرر من التبعيةأولا فإن تحقق له ذلك يمكن بعد ذلك الحديث عن اكتساب التكنولوجيا
    إن العالم العربي منشغل اليوم بمحاربة ارهاب متجدد لاينتصر عليه في معركةفي بقعة إلا ويرهقه في بقعة اخرىفي معركة أشد ضراوة من سابقاتها وفي كثير من الاحيان يقوم بمعارك وهميةضد الارهاب لصرف الانطار عن الخيبة في تحقيق التنمية _ يكلخ لروحو_