-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل حاق الوعيدُ الإلهي بمن في الأرض؟

هل حاق الوعيدُ الإلهي بمن في الأرض؟

يسرف المنشغلون بالشأن العامّ أشد الإسراف حينما يَكْلَفون بالحوادث السياسية، يعتكفون على تتبعها ويرصدون مجرياتها، فيصيبون في تحليلها تارة، وينجمون كالكهان تارة أخرى. قد أتيحت لأكثرهم روافد ميسورة يستقون منها الأخبار والمعلومات، تزيد من ولعهم بما ستؤول إليه الأوضاع؛ لعل المتابع يستضيء بما يقولون فترتفع لهم أسهم، يعدّونها عدّا لكسب موقع هنا أو هناك.

أغلب هؤلاء لديهم حسابات لا يدركها من يقرأ لهم أو يسمع أو يشاهد؛ فقلما تراهم متجردين لبيان الحقيقة كاملة، بل إن أكثرهم يدلس على الناس الوقائع ليخادع بها من يخاصم، أو يسوقها لخدمة من يوالي، أو يلوي أعناق الوقائع ليؤثر في مسارها… غابة كثيفة من الحسابات، يتيه في أدغالها الخرّيت ومن احترف القيافة السياسية.

سنن ربانية تؤثر في حياة البشر

وعلاوة على ما قيل آنفا، يفتقد أكثر من يريد تفكيك الوقائع المستجدة من هؤلاء إلى بعد آخر لا أثر له حين يفكرون وحين يتحدثون؛ له شأن بمعرفة من يدبر كل هذه الوقائع ويهيئ لها الأسباب، ثم يجريها نحو مستقر لا يستطيع أحد له طلبا، ثم يقلّب لهم الأمور من جديد إلى جهة أخرى غير معلومة، فيخسر أناس ويربح أناس، ويختفي أبطال ويبرز آخرون، وكأن الجميع لا يملكون من أمرهم شيئا إلا أمرا دبّرته لهم هذه القوة النافذة من حيث لا يدرون؛ أعني بذلك أن التحاليل السياسية للمتخصصين تفتقر إلى البعد الإيماني الذي يجلي للناس كنه ما يحيط بعالمهم من تحولات. ولن يضير المنشغلين بتوجيه الرأي العامّ شيئا لو أنهم فعّلوا هذا البعد، فإن أيسر ما يجنونه أن يعرضوا وجهة نظر مغايرة لما هو سائد على الساحة الدولية، وأغلب ظني أن ترتفع أسهم من يروم مغنما دنيويا ارتفاعا عاليا كذلك. وليت شعري، أليس من الحكمة أن يظفر من كان هذا دأبه، ليل نهار، بالرهانين معا؟

كان عتبة بن ربيعة سيدا من سادات قريش، أرسله قومه ليفاوض النبي (صلى الله عليه وسلم) في أمر دعوته الجديدة، ووضعت قريش في جعبة الرجل أوراقا ثمينة لعله أن يغري بها محمدا فيقبلها ويكف عن المعارضة؛ فلقد بلغ حنقها عليه الزبى، ولا بد من إنهاء الوضع بأي طريقة.سمع المصطفى من عُتبة ما حمل إليه، ولما خلص من كلامه تلا عليه المصطفى آيات من سورة فصّلت، فأخذ عتبة في سماعها بتمعُّن إلى أن وصل الى قوله تعالى: (فإن أعرضوا فقُل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عاد وثمود)، فأمسك عتبة على فيه، وناشد النبيَّ الرحمَ أن يكفَّ عنه، ثم عاد إلى قومه ناصحا أن يخلُّوا بينه وبين دعوته وأن يعتزلوه، فأبوا عليه واتهموه بأنه عاد إليهم من عند محمد مسحورا.

موقفٌ تاريخي له دلالات عميقة، فعتبة يملك عقلا رزينا، وله اطِّلاع على تاريخ العرب البائدة وكيف أُهلكت، قاده تفكيره إلى ربط مصير الأمم الغابرة بواقع أمته الحاضرة، من خلال نص لم يعهده، وقر في قلبه أن وعيده لا مزاح فيه.

يهب الله تعالى لمن يؤمن به حسا جديدا يمده في الوعي، فيرى به ما لا يراه الجاحد، فيستكشف الأول منهما أسرارا من القرآن تدعو إلى الدهشة والتأمل، وذلك ما عناه الله بـ”الفرقان” في قوله تعالى: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا)، وبـ”النور” في قوله تعالى: (اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به). وبما أن الخلق عيال الله، ولا مجال لظلم العبيد، فلقد تكفلت ذاته الكريمة بإبلاغ آياته للبشرية قبل أن يحاسبهم (وما كان ربُّك مُهلك القرى حتى يبعث في أمِّها رسولا يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون). ولا يفتأ الله يتلو على البشرية قصصا من تاريخها المديد لا تطوله عقولهم بسهولة ويُسر لتقادم العهد بها، كيف أوحى إليها وكيف أنجاها أو عذَّبها، بعدما تبلّغت الرسالة يقينا فلم تأخذها بمحمل جاد يليق بها، فحاق الوعيد الرباني بأهلها، وحل بهم ذلك المصير المشؤوم، (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليمٌ شديد)؛ هي قوانين صارمة جدا، ولا مجال لتخطيها أبدا.

حصاد العلوّ في الأرض

يغفل الناس عما أصاب أوروبا والعالم من حروب مدمرة توالت عليهم مرتين، خلال القرن المنصرم، كانت من صنع أيديهم، وقلما تجد لدى هؤلاء من كان يصل بين ما هم فيه من بلاء حاق بهم وبين موبقات اقترفوها في إفريقيا وآسيا، قتلا وقهرا ونهبا، بلغوا بها المدى، وما كان ليؤذن بها بتاتا من الملإ الأعلى. وليت الظالمين وعوا دروس الماضي فعدلوا، بل تبدلت مكايدهم وتلونت ليعودوا سيرتهم الأولى، ولتعود الأقدار أيضا إلى وعيدها بعدما أمهلتهم رويدا، فنصبت لهم اليوم شراك “ثقب أسود” جرّ الغرب والشرق إليه جرا، لا يملك أكثرهم له حيلة ولا مفرا؛ وانظروا، رحمكم الله، إلى “الثقب” الأوكراني اليوم كيف يُسحَق الظالمون فيه سَحقا. “إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته”. إن العالم أحوج اليوم إلى من يذكّره بأسرار الحياة الصحيحة كما جاءت في خطاب الله للناس، لا يزيد عليها ولا ينقص. وإني أرى الناس اليوم أكثر استعدادا لقبول الدعوة المحمدية، وأشد حوجا إلى بشاراتها من ذي قبل.

لأن الملكة كانت مستبصرة، فقد ساقت قومها إلى النجاة بدهاء سياسي لا يعرف تمييزا بين ذكر وأنثى، ولولا ذلك التقدير الحكيم لانقادت لمنطق القوة وحدها فأوردت عرشها الدمار والهلاك، ولكنها نجت وأنجت، و(قالت ربِّ إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين).

تباهى اليابانيون بالسبق التكنولوجي أمام الأمم، حتى عدّوا ما صنعوا أسطورة لا تضاهى، وها هي ذي أحلامهم اليوم تتهاوى، عندما طفقت أعدادُهم تفنى على حين غرة كل عام، حتى دق ساستهم نواقيس الخطر، أن استفيقوا أيها اليابانيون، فلن يكون لكم وجودٌ على الخارطة بعد سنوات! لقد أخذ الله من أنفسهم نسمات ولم يبدّلهم عقبا به يستمرون، بعدما رآهم قد تاهوا عُجبا بما متعوا به وعلوا في الأرض على الجنس البشري وقالوا من أشد منا قوة؟ ولم يبالوا بالحكمة من الوجود فاستدرجوا إلى نهاية مأساوية. ولحاجة في نفس يعقوب، يسعى الروس رويدا نحو اليابان من الشمال عبر المحيط الهادي يبتغون عندهم صيدا، ولن ينفع اليابانيين ما بأيدهم من عدة وعتاد لدفع هذا القدر المحتوم. (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين). ولا جرم أن للصين، الطالع نجمها حديثا، أطماعا أخرى تريد أن تصيبها من القوم في دورة حضارية جديدة يبدو أنها ستكون هي في طليعتها، لينظر الله ما سيفعله الصينيون بالخليقة أيضا، في اختبار جديد يخضع للناموس ذاته، ولا مبدل لكلمات الله.

هل تحتاج الجندية إلى عقل صالح؟

العسكرية لا عقل لها، وهي مفتقرة أبد الدهر لمن يقودها بعلم وصلاح حتى لا تتحطم وهي تسعى بقوة فوق البسيطة. لقد روى القرآن الكريم محاورة سياسية، ذات مغزى عميق، بين ملكة سبأ وقومها، حينما وصلها كتاب الملك سليمان (عليه السلام)، فطلبت من حاشيتها الرأي والمشورة، مذكرة إياهم بعهدها فيهم قائلة: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون)، فلم تلف لديهم رأيا تركن إليه في هذه النازلة غير مباهاة بقوة وبأس لا حاجة لها بها، وشعورا منهم بالعجز في تقدير الموقف فقد فوَّضوا الأمر إليها، و(قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين). ولأن الملكة كانت مستبصرة، فقد ساقت قومها إلى النجاة بدهاء سياسي لا يعرف تمييزا بين ذكر وأنثى، ولولا ذلك التقدير الحكيم لانقادت لمنطق القوة وحدها فأوردت عرشها الدمار والهلاك، ولكنها نجت وأنجت، و(قالت ربِّ إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين).

لا تنسى أمتنا المسلمة ما فعلت الجيوش بأهلها… وكيف داست بجنازير دباباتها على الأحياء غير آبهة بشناعة ما تفعل، حتى ظنت بأن الأقدار حابتها ولن تنتصف منها أبدا، ولم يكد العسكريون في مصر يلملمون آثار مجزرة رابعة حتى بعث الله إليهم الحبشة تستحوذ، بلا مشورة منهم، على نصيب وافر من النيل تدَّخره لنهضتها الاقتصادية. وعبثا حاول القادة المصريون ثنيها، فحرضوا المتمردين في إقليم “تيغراي” انتقاما، فبادلتهم إثيوبيا كيدا بكيد. وما يحدث اليوم في السودان هدية من إبريز ستستغلها إثيوبيا لتوريط الجيش المصري في نزاع قد يطول. إنها نواميس صارمة من القسط أجريت على البشر، لا يتفلّت من حكمها كل من في البر والبحر. فهل سيرعى حقها بما يليق، الساعون اليوم بجدّ إلى نظام عالمي جديد؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!