-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

استشراف المستقبل في “المرآة العاكسة!”

حمزة يدوغي
  • 3500
  • 0
استشراف المستقبل في “المرآة العاكسة!”

إن القرن العشرين يكاد يمثل وحده نصف عمر البشرية فقد تكثفت أحداثه – خصوصا في نصفه الثاني – وتطورت وتقدمت فيه العلوم التكنولوجية والكشوف العلمية بشكل مذهل وبسرعة لم يسبق لها مثيل.

والذي يهمنا في هذا كله أمران: الأول أن الهزات العنيفة التي أحثها ذلك التقدم العلمي التكنولوجي قد زعزعت كثيرا من “المسلّمات” وخلخلت كثيرا من “القناعات” والأمر الثاني أن المسلمين – بصفة خاصة – قد استفادوا كثيرا من فعل تلك الهزات لأنها عجّلت بانتهاء “فترة الغيبوبة والانبهار” التي تصحب دائما اصطدام التخلف بالتقدم.

ولعل أول ما تفطن إليه الوعي الإسلامي بعد صحوته هو أن “الانتصارات الباهرة” التي حققها التقدم العلمي الحديث لا تتعارض مع الدين بل هي من صميم توجيهاته ومقتضيات إقامته.

لقد تحرر المسلمون فعلا من كثير من العقد التي ولّدها الفهم القاصر للدين والتأويل الخاطئ لمقاصد شريعته وما ينتج عن ذلك من تضييق مجال حركة الإنسان والحد من حريته وكبح نشاطه.

يتجلى ذلك التحرر في انتعاش بعض العلوم الإسلامية التي أصبحت تخوض في أحدث الاختصاصات من “منظور إسلامي”  بعد أن شاهد المسلمون الإنسان الغربي يتحكم في مجالات حساسة من مجالات الحياة كانت تبدو لهم من شؤون الخالق وحده سبحانه ولعل أبسط مثال على ذلك تطور فهم المفسرين لإحدى “المغيّبات الخمس” الواردة في الآية الكريمة “إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت”، فقوله تعالى “ ويعلم ما في الأرحام” كان المفسرون إلى عهد قريب جدا يفهمون منه أنه هو وحده سبحانه الذي يعلم جنس الجنين، ذكر هو أم أنثى، وأن “ما” في الأرحام لا تعني أكثر من ذلك.

أين هذا “الفهم” من القفزة العملاقة التي حققها علم الأجنة الذي أغنى مجالا خصبا آخر من مجالات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، والذي كان سببا في إسلام العديد من العلماء المتخصصين في هذا العلم؟!

لقد أيقن المسلمون أن العصر الذي يعيشون فيه هو عصر العلم وأن الألفية الثالثة هي ألفية الثالثة هي ألفية التخطيط العلمي الدقيق في كل شيء فلا مجال هناك للظن والترجيح في التعامل مع الواقع واستشراف المستقبل، وتفطنوا إلى أن “التفكير العلمي والتخطيط” من المسائل التي يحث عليها الإسلام الذي يعلم أتباعه أن كل شيء في هذا الكون مرتبط بنظام دقيق يدبره العزيز الحكيم سبحانه.

السعي إلى التحكم في عملية التطور وضبط سرعة عجلته وتحديد اتجاهها، كل ذلك يعتبر مستحيلا من غير تخطيط علمي قائم على نسق شامل لمختلف مناحي الحياة، فهل تعكس جهود المسلمين اليوم هذا النسق في مجال البناء الحضاري؟!

إن الواقع يؤكد أن هذا النسق ما يزال مهزوز لأن “الدراسات المستقبلية”تكاد تكون منعدمة في المجتمعات الإسلامية بالرغم من كونها الضمان الوحيد لتجاوز إشكالية “التوقع والقرار” التي تظل إحدى السمات الكبرى للمجتمعات المتخلفة

من المعروف  أن “الحاضر هو غرس الماضي وأن المستقبل جني الحاضر” ومعنى هذا المعادلة أن أي استشراف للمستقبل لا يكون له معنى إلا بعد الفراغ من “فرز الماضي” لإحكام الصلة بما يفيد الحاضر الذي يصنع المستقبل،  وللتحرر مما يعوق حركة هذا الحاضر، وبتعبير عصري نقول إن “الإقلاع الحضاري” يتطلب النظر في “المرآة العاكسة للخلف” لأن توحيد النظرة إلى المستقبل يستوجب توحيد النظرة إلى الماضي وعندما نقول “الماضي” فإننا نعني القضايا الفكرية الكبرى التي لم يسحمها المسلمون حسما علميا نهائيا ويتخذوا منها موقفا موحدا شاملا

وتأتي على رأس هذه القضايا الفكرية الكبرى قضية “التراث الإسلامي”، فالخلط ما يزال قائما في كثير من الأذهان بين “الإسلام” عقيدة وشريعة، وبين “التراث الإسلامي” الذي هو نتاج “اجتهاد القرون” يصيب ويخطئ، والنتيجة الطبيعية لذلك هو ما نشاهده من عدم التمييز بين ما هو ملزم “إلزاما دينيا” وما هو ملزم “إلزاما أدبيا” لا يغر

إن المستقبل يصنعه الماضي، هذه حقيقة لا يجادل فيها أحد، لكن السؤال القائم دائما هو: “متى نستفتي الماضي وفي أي مجال؟!”

إن تحديد الموقف السليم من “التراث الإسلامي” من الأولويات التي لم تحظ بالقدر الكافي من اهتمام ذوي الاختصاص من علماء المسلمين، بالرغم من التناقض والتعقيد والغموض الكثيف الذي يلفه، ويلف بحوث الباحين فيه والمستغلين له بشكل خاص، فما أكثر المخططات الهدامة التي تستتر وراء عناوين “العصرنة والعملية والواقعية الحضارية” وهي إنما تسعى إلى هدم هذا التراث وطمسه والحيلولة دون عطائه، وما أكثر الأخطاء التي ترتكب كذلك باسم إحياء هذا التراث نفسه والدفاع عنه عندما يغيب المقياس الصحيح الذين يفصل بالعلم بين الثوابت والمتغيرات، وما أكثر “كلمات الحق” التي يراد بها باطل في التعامل مع هذا المجال الحساس، ولعل أكثرها خطورة وشيوعا “أنه لا قداسة إلا للكتاب والسنة” وأما اجتهادات البشر المتراكمة عبر الأجيال والقرون فإنها غير معصمومة من الخطأ.

إن هذه الحقيقة التي لا يناقش فيها أحد ولا يجادل فيها أحد كثيرا ما يتخذها المغرضون ذريعة للطعن في أئمة المسلمين وعلمائهم والتشكيك في جدوى اتباع نهجهم بدعوى التحرر من “المذهبية الضيقة” باسم إحياء الاجتهاد وما إلى ذلك من الذرائع الواهية.

إن المتنكر للتراث عموما دون تحفظ يعتبر أقل خطرا من المقدس لهذا التراث مطلقا من دون تمييز واع بين ما هو من الدين بحسبه وبرهانه وما ليس منه بقبحه وبطلانه، بين الإسلام عقيدة وشريعة وبين ماضي المسلمين وواقعهم التاريخي، إن هذا المقدس للتراث من دون تمييز هو الذي ينبغي نقله من مرحلة “الكائن التراثي” إلى مرحلة الكائن الذي “يملك تراثا” يتصرف فيه تصرف المالك الراشد المستقل

ولكن .. من ينقل من؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • مواطن

    لا أشك أن نواياك صادقة لكن ألا تنتبه إلى زميلتك في الأنتبلوجيا التي تريد أن تتخذ من الدارجة وسيلة للتعليم؟ما هو وجه الشبه بينكما؟لقد سمعنا طول حياتنا أن العلماء هم أئمتنا وتربينا على الامتناع عن الخوض في الفقه وها أنت تطالبنا باستشراق المستقبل بالمرآة العاكسة.لقد حذر فقهاؤنا من إسناد النظريات العلمية إلى فحوى آيات من القرآن الكريم فما بالك بتاريخ لا نعلم منه إلا شذر مذر غاصا بالنكسات.لماذا لا نعتني بحاضرنا الأليم ونقتبس من الشعوب أسباب تطورها التكنولوجي لأنها اعتمدت دراسة العلوم والجد في العمل؟

  • احمد بوعلال

    استطاع علم الاجنة ان يعرف جنس الجنين لكنه لن يستطيع ان يعرف هل هو شقى ام سعيد؟هذا امر يخص الله سبحانه وحده .الاسلام يمنع المسلمين بالاشتغال بعلم الغيب لان الامر فوق طاقتهم العقلية المحدودة لان علم الغيب علم الاهى مطلق لكن لايمنع الاسلام التخطيط للمستقبل