-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الانقلاب في النِّيجر وتداعياته على الجزائر

ناصر حمدادوش
  • 1991
  • 0
الانقلاب في النِّيجر وتداعياته على الجزائر

يزخر تاريخ إفريقيا المعاصر بسجِّلٍ أسودَ من الانقلابات العسكرية منذ 06 عقود من استقلال دولها في ستينيات القرن الماضي، إذ بلغت نحو 187 عملية انقلابية، بين عمليةٍ ناجحةٍ وفاشلة، ففي نيجيريا– مثلاً- وقعت 08 انقلابات، وفي كلٍّ من موريتانيا وأوغاندا 06 انقلابات، وفي كلٍّ من جزر القمر وغانا وبوركينافاسو والنيجر 05 انقلابات، وفي كلٍّ من غينيا بيساو ومالي 04 انقلابات، وفي كلٍّ من رواندا والتوغو وإفريقيا الوسطى 03 انقلابات.

والمستقرئ لمسارات هذه الانقلابات يرصد يدًا أو دورًا أو مصلحةً لدولةٍ أجنبيةٍ تقف وراءها، وأنَّ الشيطان الأكبر في أغلبها هو حضور فرنسا، التي تسعى إلى تأبيد وجودها وهيمنتها، إذْ عجزت عن التحرُّر من روحها الاستعمارية ونهجها الكولونيالي.

إنَّ المواقف من هذه الانقلابات لا تخلو من النِّفاق الدبلوماسي والازدواجية في المعايير والكيل بمكيالين، وعند تتبُّع خريطة المصالح الكبرى للدول العظمى ندرك الأهمية الاستراتيجية لدولة النيجر، مع أنها تحتلُّ المرتبة الأخيرة من بين 188 دولة في مؤشِّر الأمم المتحدة للتنمية البشرية لسنة 2015م، وأنَّ 43 بالمائة من سكَّانها يعيشون حالة الفقر من أصل 24 مليون نسمة، ومع ذلك فقد أخذ الانقلاب العسكري الأخير فيها يوم 26 جويلية 2023م كلَّ هذا الزَّخم الإقليمي والدولي، مقارنةً مع غيره من الانقلابات في الدول الأخرى، مما يعبِّر عن عمق الصَّدمة وحجم الخوف من آثار هذا الانقلاب الذي يتعارض ظاهريًّا مع المصالح الغربية.

ويرجع هذا الاهتمام الاستثنائي بهذا الانقلاب- تحديدًا- إلى جملةٍ من الأسباب، منها:

1_ مصادر الطاقة: حتى دخلت هذه الثروات الطبيعية للنيجر في استراتيجية الأمن القومي لبعض الدول، وعلى رأسها: فرنسا، فمنذ 1971م وشركة “أريفا” العملاقة تستحوذ على “اليورانيوم” الذي يُمِدُّ المفاعلات النَّووية الفرنسية بنحو 35 بالمائة، التي تنتج منها نحو 75 بالمائة من طاقتها الكهربائية. فالنيجر تحتلُّ المرتبة الرابعة عالميًّا في إنتاج اليورانيوم، إلا أنها تعيش حالةً من الامتعاض المكتوم من ديمومة الاستنزاف المريع، إذْ لا تستفيد من إنتاجه إلا بنحو 5.5 بالمائة فقط، فكان الصِّراع الدولي على اليورانيوم أحد أسباب الأهمية الاستراتيجية للنيجر، ولو بتدبير الانقلابات العسكرية ضدَّ كلِّ من يحاول كسر احتكار هذه الثروات، مثلما حدث للرئيس المنتخب “ممادو طانجا”(1999م – 2010م)، الذي تجرَّأ لأوَّل مرَّةٍ في تاريخ العلاقة مع فرنسا على التفاوض لفتح المجال أمام شركاتٍ أجنبية لإنتاج اليورانيوم، مثل: الشَّركات الصِّينية والكندية والهندية، وهو ما دفع بفرنسا إلى تدبير انقلابٍ عسكريٍّ ضدَّه في فيفري 2010م بسبب طموحاته التحرُّرية، وتجاوزاته الخطوط الحمراء.

2_ وقوع النيجر في قلب الاستراتيجية الغربية في إفريقيا: فقد استثمرت المنظومة الغربية عسكريًّا في النيجر، وجعلت منه شريكًا أمنيًّا موثوقًا به، وذلك لتنفيذ أهدافها الجيوسياسية في منطقة السَّاحل.

ففرنسا جعلت من النيجر نقطة الارتكاز لاستراتيجيتها العسكرية، بعد طرد قواتها من مالي وبوركينافاسو، التي تحتضن نحو: 1500 جندي، وهي القاعدة الأساسية لقوات حلف الناتو في المنطقة، لأهمية موقعها الجغرافي، مما يجعلها- من المنظور الغربي– نقطةً مركزيةً في مراقبة الحدود ومكافحة الإرهاب.

وتتواجد أمريكا بقاعدتين عسكريتين تضمُّ نحو 1100 جندي، منها قاعدةٌ في وسط الصَّحراء بشمال النِّيجر للطائرات المسيَّرة، وتخشى من ضياع النُّفوذ بهذا البلد، ويكون الدولة 11 في سلسلة الدول الإفريقية التي تتخذ من الوجود الرُّوسي ملاذًا آمنًا لها.

3_ أنَّ هذا الانقلاب يُدخِل النيجر ضمن هذا الحزام المناهض للهيمنة الغربية في إفريقيا، الذي يعكس التحوُّلات الكبرى في وعي النُّخب الإفريقية، التي تسعى إلى تجاوز الوصاية الغربية، وخاصةً أنَّ هذه الدول تملك خياراتٍ بديلةً عنها، كروسيا والصِّين وتركيا والهند.

ومن اللاَّفت في هذا الانقلاب، المظاهرات الشَّعبية المؤيدة له، التي لم تخلُ من رمزياتٍ ورسائلَ سياسيةٍ معيَّنة، منها: رفع العلم الجزائري فوق مبنى البرلمان، وهو ما يوحي بأهمية الدور الجزائري، وهي التي تملك حدودًا وأجواءً تفصل بين النيجر وفرنسا، وتؤثِّر في المواقف المتعلقة بهذا البلد، بما يؤكد على ملامح أهميته الاستراتيجية بالنِّسبة إلى الجزائر، والتداعيات المحتملة لأيِّ تدخُّل عسكري فيه.

وفي الوقت الذي تهدِّد فيه المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” بالتدخُّل العسكري، أصدرت مالي وبوركينافاسو بيانًا مشتركًا يوم 31 جويلية 2023 م يعتبر أيَّ تدخُّلٍ عسكريٍّ في النيجر بمثابةِ إعلانِ حربٍ عليهما، وهو ما يدلِّل على هذا التضامن بين الانقلاب الذي وقع في مالي يوم: 24 ماي 2021م، والانقلاب الذي وقع في بوركينافاسو يوم: 30 سبتمبر 2022 م، وهذا الانقلاب في النيجر، الذي تؤكد مؤشراتُه على محاولاتٍ إفريقيةٍ لإنهاء الوجود الفرنسي والغربي، واستبداله بالخصمِ الرُّوسيٍّ الشَّرس.

ومع تأكيد الجزائر على ضرورة استعادة الشَّرعية الدستورية، إلاَّ أنها شدَّدت على رفضها القاطع والتَّامِّ لأيِّ تدخُّلٍ عسكريٍّ، وذلك للتداعيات الخطيرة لهذا التدخل عليها، التي منها:

1/ تربط بين الجزائر والنيجر علاقاتٌ اجتماعيةٌ وإنسانيةٌ وتاريخية، وتمتد الجغرافيا بينهما إلى نحو 1000 كلم، وهي تَعِي جيِّدًا ما يعنيه التوتر على حدودها في النيجر، وأنَّ أيَّ تدهورٍ للوضع في هذا الجوار هو تهديدٌ مباشرٌ لعمقها الاستراتيجي وأمنها القومي، إذْ تجمع بين البلدين اتفاقياتٌ أمنية، منها: اتفاقية تسيير دورياتٍ مشتركةٍ لتأمين الحدود منذ 2021 م.

2/ التأثير السِّلبي على إنجاز المشاريع الاستراتيجية ذات التكامل الإقليمي بين الجزائر والنيجر، منها:

الطريق العابر للصَّحراء، الذي يربط الجزائر بخمس دول من السَّاحل، كما يؤثِّر على شطر النيجر الذي تكفَّلت الجزائر بإنجازه من أنبوب الغاز “لاغوس” (نيجيريا – الجزائر – أوروبا)، وكذا التأثير على مشاريع الاستكشاف والإنتاج لشركة سوناطراك في تطوير حقول النَّفط بشمال النيجر التي انطلقت في 2015 م، وعقد تقاسم الإنتاج برقعة “كفرا” الموقَّع عليه في فيفري 2022م.

3/ تعتبر الجزائر منطقة السَّاحل– والنيجر في قلبها– بؤرةَ أزماتٍ أمنيةٍ خطيرةٍ، فهي تعجُّ بالجماعات المتطرِّفة والهجرة غير الشَّرعية والاتِّجار بالسِّلاح وتهريب المخدرات والجريمة المنظمة، وخاصة أنَّ دول السَّاحل تتربَّع على مساحةٍ تصل إلى 10 ملايين كلم مربع، وهي: موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد، السُّودان، إريتيريا، وهي كلُّها دولٌ رخوة، ذاتُ منظوماتٍ أمنيةٍ هشَّة، وحدودٍ مفتوحة، وأوضاعٍ قابلةٍ للاختراق، بالإضافة إلى مخاطر تعقيدات الأزمة الليبية، التي تجمعها بالجزائر حدودٌ جغرافية تصل إلى 982 كلم.

4/ خطورة الانقسام الداخلي والإقليمي والدولي في التعاطي مع هذا الانقلاب: فسرعة الاستقطاب، وخشونة اللغة المستخدمة في المواقف تدلُّ على جدِّيِّة الأزمة وخطورة المواجهة وتداعياتها الاستراتيجية على الجميع.

فقادة الانقلاب في النيجر يجدون الدَّعم المباشر من الشُّعور القومي والوطني للشَّعب المؤيِّد لهم في المظاهرات المستمرة، كما يجدون الدَّعم الرَّسمي من رفقاء التمرُّد على الوجود الفرنسي والنفوذ الغربي في كلٍّ من مالي وبوركينافاسو وغينيا كوناكري، ومن ورائهم الدَّعم غير المباشر وغير المعلن من “قوات فاغنر” الرُّوسية.

وفي المقابل، تقف مجموعة “إكواس” خلف الرئيس النيجري المحتجز “محمد بازوم”، وهي التي تحظى بدعمٍ صريحٍ ومباشرٍ من الدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا وأمريكا، التي باشرت إجراءاتٍ عقابيةً ردعية، مثل: غلق الحدود وقطع الكهرباء ووقف المساعدات الإنسانية والتنموية، والتَّهديد بالتدخُّل العسكري.

وفي الطرف الثالث، تقف دولٌ وازنة، مثل: الصين وروسيا والجزائر وإيطاليا والبرلمان النَّيجيري ضدَّ أيِّ تدخُّلٍ عسكري، داعيةً إلى التفاوض من أجل حلولٍ سلميةٍ ودبلوماسية.

وفي هذا الخضمِّ المتلاطم، تجد الجزائر نفسها أمام مخاطر لا يمكن تجاهلها، وهي في حاجةٍ إلى تأمين العلاقات الدبلوماسية الإقليمية، بربط العلاقة بين العقيدة الأمنية والسِّياسة الخارجية، وضبط إيقاع التحرُّك الدبلوماسي على قاعدة حسن الجوار، وعدم التدخُّل في الشُّؤون الداخلية لهذا البلد، والعمل في الإطار الجماعي على حلِّ هذه الأزمة سلميًّا، ورفض أيِّ تدخُّلٍ عسكريٍّ فيه.

إنَّ نجاح هذا الانقلاب هو تغييرٌ جدِّيٌّ لموازين القوى في المنطقة، إذ تعتبر النيجر الملاذ الأخير للوجود الفرنسي والنُّفوذ الغربي في السَّاحل الإفريقي، وهو ما يدفع نحو اشتداد التنافس الدولي، باعتبار النيجر جزءًا أساسيًّا ضمن الأمن الاستراتيجي لمختلف القوى المتصادمة.

ومع أنَّ جغرافيا السَّاحل والصَّحراء عصيةٌ على الإخضاع التَّامِّ والتحكُّم الكلِّيِّ، فإنَّ تصادم الإرادات الإقليمية والدولية في تعاطيها مع هذا الانقلاب قد يصل إلى معركة كسر العظام، وهو ما يشعل حربًا إقليميةً شرسة، لا تقلُّ قسوتها عن التصادم الدولي بين روسيا والغرب في أوكرانيا، إلا أنَّ إدراك الجميع خطورة الحلِّ العسكري وآثاره المتعدِّية على جميع الأطراف، يرجِّح مساعي التوافق من أجل الحلِّ السِّياسي والدبلوماسي، الذي نأمل في كلِّ الحالات ألاَّ يُرجِع النِّيجر إلى ماضي الاحتكار الفرنسي والهيمنة الغربية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!