-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التعليم وقيمة العدل

الشروق أونلاين
  • 2611
  • 5
التعليم وقيمة العدل

إن من نعم الله على هذا البلد الطيب الكريم نعمة الاستقلال، ومن آثار هذه النعمة هذه الجحافل من المتعلمين التي التحقت بالمدارس والثانويات والجامعات بحر هذا الأسبوع لغاية واحدة هي طلب العلم الذي ضمن الله لأتباعه رفعة الدنيا والآخرة فقال »يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات«. وتلقين العلم عمل شريف ونبيل صاحبه كالشمعة التي تضيء للناس وهي تحترق، فالدخل محدود والحبيبتان -أي الباصرتان- يتناقص ضوؤهما في كل يوم، وعوامل الضغط الاجتماعي تزيد من يوم إلى آخر من لامس شغاف قلبه حب الخير للآخرين. إلا أن التعليم إذا عدمنا فيه قيمة واحدة جاءت قطوفه غير دانية وعوراته للناس بادية. هذه القيمة هي العدل.

  • لقد وضع الحكماء من أقدم العصور تصنيفا للعلوم، أهم ما يلفت النظر فيه الحديث عن ثلاثة علوم سموها العلوم المعيارية وهي:
  • 1- علم المنطق ويعرف به صحيح الكلام من سقيمه
  • 2- علم الجمال ويعرف به جميل الصور من قبيحها
  • 3- علم الأخلاق وتعرف به الفضيلة من الرذيلة
  • واجتمعت كلمة الحكماء والعلماء والفلاسفة على أن العدل هو القيمة الكبرى في ميزان المعاملة، بل إنه أساس الحقيقة الوجودية كلها، فالله هو العدل والوجود الذي خلق قام بالعدل. قال تعالى »وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان«، وقال »وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل«، وقال »ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى«، والآيات في هذا الباب كثيرة، وبما أن كل فضيلة واقعة بين طرفين إفراطٍ وتفريطٍ فإن العدل واقع بين الظلم والسكوت عن الحق، كما أن الشجاعة واقعة بين الجبن والتهور، والكرم واقع بين الشح والتبذير، وهكذا سائر القيم. ولطالما ردد الناس بمناسبة وبغيرها قول أمير الشعراء:
  • قم للمعلم وفه التبجيلا ** كاد المعلم أن يكون رسولا
  • وهذا أضعف الإيمان في حق من تبنى على كاهله وعقله وراحته وضميره حضارات الأمم والشعوب. ولكنني وجدت كثيرا من بني جلدتي ولساني تناسوا قول شوقي في هذه القصيدة اللامية منبها إلى فضيلة العدل عند المعلم:
  • وإذا المعلم لم يكن عدلا ** مشى العدل في الشباب ضئيلا
  • وإذا المعلم حاد قيد بصيرة ** جاءت على يده البصائر حولا
  • بيتان ليتنا نكتبهما بماء من مداد القلوب بغزارة المعاني المنسكبة من ثناياهما. إننا نتابع بمرارة الاعتداءات المختلفة الواقعة على أطفال في أعمار الزهور يجسدون البراءة بكل معانيها، فهذا ضحية نزوة حيوانية لمعلمه، وتلك شوهت المعلمة وجهها بضربة عصا، وثالثة ابتزها أستاذ الجامعة في أقدس معالم الشخصية الإنسانية وهو الشرف والكرامة إلخ… وأحيانا تناقش في وقت قياسي رسائل جامعية بمستوى التدرج الأول (الماجستير) أو التدرج الأخير (الدكتوراه) لطلبة يعلم الله وحده كيف وصلوا إلى هذه المرحلة من البحث، بل كيف ولجوا يوما ما أبواب الجامعة، في حين تنتظر كفاءات حقيقية كانت متميزة في طور الإجازة لعل شعاع رحمة يشرق من قلب المشرف أو أعضاء اللجنة الموقرة لطرح أعمالها للمناقشات العلنية. إنها حقائق يهمس بها الزملاء بينهم، ولكنني اليوم أكتبها لأن الذين رتبوا جامعاتنا في ذيل السلم العلمي ظلما وعدوانا يعلمون كثيرا من الحقائق عن شقوق بيتنا! بل إن كثيرا ممن يتقدمون إلى أعلى رتبة علمية (بروفيسور) ليس لهم من الإنتاج العلمي ما يلبي شروط مسطرة القبول، فكيف بالرتبة ذاتها، ولكنهم واثقون من أحكام بعض من أخسروا الميزان!  لقد شهدت حالات كثيرة من ظلم المعلمين، وكم أضحكني جواب مدير مؤسسة تربوية منذ سنة خلت حين سألته كيف اجتمع أبناء المعلمين والمحظوظين من ذوي الجاه في قسم واحد فأجابني إنها القرعة، إنها المصادفة! أضحكني الجواب وتمثلت في سري قول المتنبي:
  • وليس بمصر من مضحكات ** ولكنه ضحك كالبكاء
  • وحضرني الأثر النبوي »من وَلِي ثلاثة من صبية المسلمين ولم يعدل بينهم غنيّهم مع فقيرهم وفقيرهم مع غنيهم حشر يوم القيامة مع الخائنين« هل شعر هذا المدير بما يخلفه مثل هذا التمييز القاتل للمواهب وللشقة بالنفس في نفوس بقية التلاميذ؟ يعلم الله أن هذا التصرف لوحده هو جريمة بكل المقاييس »لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد« وإذا استحدثت أقسام امتياز فستكون من نصيب الفائزين بهذه القرعة المباركة، كم من تمليذ يدرس طيلة مرحلته الدراسية عند والده أو والدته لغير ضرورة تربوية، بل ليكون تحت العناية المركزة ولبقية التلاميذ رب يحميهم؟!
  • وكم من محظوظ تتلقف هدايا والديه أيادي بعض من باعوا ضمائرهم في سوق المادة لينجح كل سنة رغم أنف الجميع، عمل أو لم يعمل! إنه العدل الغائب، ولقد شهدت دموعا حرى تسيل على خدود طلبة وطالبات ليس لأنهم لم يحصلوا على المادة المقررة، بل لأن وجوها غريبة (وجميلة) غائبة على مدار السنة التحقت بمدرجات الامتحان ونجحت لأسباب سجلت في خانة »سري للغاية«! إنها علاقات العبث التي لا تقيم شأنا لقيمة العدل فقد صار للجمال الظاهر دخل في ثقل الموازين يوم رصد العلامات وتسليم الشهادات وحصد الامتيازات كمنحة الدراسة بالخارج أو الالتحاق بمسابقة الدراسات العليا.
  • إن هذه الصور ومثلما الصادرة عن نفوس مريضة لا تعرف للعدل معنى ولا لكرامة المتعلم وإحساسه قيمة هي التي بدأت تبعث اليأس في صفوف الناشئة، إن الملايين التي التحقت بفضاءات العلم ومنابر الدراسة وحياض المعرفة إذا سكنها هذا الشعور القاتل بغياب العدل وبانحياز المعلمين في مختلف الأطوار إلى فئات دون أخرى فسيكون الصدمة الأولى العبرى في مسارها، فإذا التحقت بمسؤولياتها في الحياة يوما ما فإن الوهن يكون قد أصابها فحالت بصائرها ؟؟ لأنها عدت القدوة الحسنة في العدل ويئست من الوجود الفعلي لهذه القيمة في حياة الناس، فحالت بصائرها كما قال شوقي رحمه الله،.
  •  إنني على يقين أن الذين انطفأت أنوار العدل في قلوبهم وعقولهم هم قلة ممن يزاولون التعليم في مراحله المختلفة، ولكن هذا الدواء يحتاج منا إلى وقفات مع أنفسنا اللوامة أولا، ثم مع بعضنا في إطار الكتابة البناءة والرؤى الناقدة والوعظ الصادق في فضائنا الديني والأخلاقي، فإن روح العدل إذا سرت إلى ناشئتنا المتعلمة استقامت أحوالنا دون كبير عناء، وصلح أمرنا رغم الداء والأعداء.
  •  إن لي حوسا كبيرا بقيمة العدل في كل شيء، لأنه وشاح العلم وزينة الدنيا وأساس الملك، واقرأ معي أخي إن شئت هذه الأبيات ليحيى البرمكي وهو يجود بأنفاسه الأخيرة في سجن هارون الرشيد.
  • أسلو الله أن الظلم لوم
  • ستعلم ياظلوم إذا التقنيا
  • إلى ديّان يوم الدين نمضي
  • وأن المسيء أبدا ظلوم
  • غدا عند الإله من الظلوم
  • وعند الله تجتمع الخصوم
  • أليست مزلزلة لكيان مرددها؟
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • كبوط

    السلام على الجميع هذه هي المقالات أو لا مقال نسأل الله السلامة والستر والعفو على تقسيرنا في حق مجتمعاتنا ودولنا ومنظوماتنا التربوية وتعليمنا العالي والمؤولية على عاتق الجميع كلكم راع

  • silakhdarmohamed

    لقد تمتعت كثيرا بهذا المقال الرائع و الغني بالدرر النادرة و القيمة بارك الله فيك يا سيدي

  • عبد الكريم

    الاسباذ بن بريكة انا احبك في الله

  • سارة

    بارك االه فيك بروفسور على هذا المقال الاكثر من رائع و اسال الله ان يجعلنا ممن يقومون بالعدل

  • محمد

    استاذي الفاضل كلنا مصدومين مما تعاني منه منظومتنا التربوية
    لكن رأيي هذا المقال كان ردة فعل لا فعل مماجعله
    لايؤكد استثناء اولئك المعلمين الذين نكن لهم كل الاحترام والتقدير