الدّولة السّارقة
لسائل أن يتساءل في نفسه وأن يسأل غيره: من تكون هذه الدولة السارقة؟ وله أن يتساءل في نفسه وأن يسأل غيره: من وصفها بهذه الصفة القبيحة التي تجعل الموصوف بها يتوارى عن الناس إن كان بشرا سويا؟ وله أن يتساءل في نفسه وأن يسأل غيره: هل هذه الدولة مظلومة عندما وصفت بذلك..؟
فأما الدولة الموصوفة بالسرقة فلا يحتاج الأمر إلى كثير تفكير لمعرفتها، فهي دولة لم تترك قبيحا من القبائح، ولا فاضحا من الفضائح، ولا جريمة من الجرائم، ولا كبيرة من الكبائر إلا أتت منه في الجزائر ما يكفي العالَم كله ويفيض.. إنها فرنسا.
إن الأمر الذي سيستغرب له القارئ هو صاحب هذا الوصف. إنه ليس مسلما، ولا يهوديا، وليس من أعداء فرنسا التاريخيين (الألمان، الإنجليز، الإسبان..)، وليس من أبناء البلدان التي ابتليت باحتلال فرنسا لها، فسرقت خيراتها، واغتصبت ثرواتها، وأكلت عرق أبنائها، ولكن هذا الوصف هو من أبناء فرنسا نفسها. ولو كان هذا القائل شخصا واحدا لقلنا إنها سَوْرَةُ غضب استحوذت عليه، أو لقنا لعلّ مسًّا أصاب عقله، ولكن الوصف جاء من مجموعة من الفرنسيين لا يمكن أن »يضربهم« جميعا جان.. ولو قال هؤلاء الفرنسيون هذا القول عن فرنسا في فرنسا نفسها لالتمسنا لهم الأعذار وقلنا لعل بلدهم ظلمهم، فأخذ حقوقهم، ولكن القائلين هم فرنسيون مقيمون في الجزائر، جاءت بهم فرنسا حفاة، عراة، جياعا، وأسكنتهم في »جنة أرضية(1)« اغتصبتها من ملاّكها الجزائريين، وأمدّتهم بأموال سلبتها من أصحابها، فانتفخت بطونهم من خيرات الجزائر، واحمرت وجوههم من نعيمها.. فإذا كان هؤلاء لم يشكروا لدولتهم كل ما فعلته لهم فكيف يذكرون الجزائريين بخير، أو يعترفون لهم بفضل؟
وأما الجواب عن التساؤل الأخير وهو: هل فرنسا مظلمومة عندما وصفت بـ »الدولة السارقة« (l’état voleur)(2) فهو أنها غير مظلومة. وأكبر دليل على ذلك هو أن ذلك الوصف لم يأت -كما قلنا- من أعدائها ولكنه جاء من جزء من أبنائها، فـ »شهد شاهد من أهلها«، والاعتراف سيد الأدلة.
والدليل الآخر على صدق ذلك الوصف هو أن جزءا مما سرقته فرنسا في الجزائر ما تزال تحتفظ به، وتعترف -دون خجل- أمام العالم كله بأنها لن تتخلى عنه، ولن تعيده إلى أصحابه، ولن ترجعه إلى أهله!!! رغم توقّحها بأنها دولة مبادئ، وقوانين، وقيم. إن هذا الشيء الثمين الذي سرقته فرنسا من الجزائر، وما تزال تستحوذ عليه هو »الأرشيف الجزائري«(3).
إن السرقات أشكال وإن السّرّاق أنواع..
وإن أهون السرقات هي سرقات الماديات، وإن أشنع السرقات وأخس أنواعها هي سرقات »المعنويات«.
وإن اللص –الفرد لهو أبسط اللصوص، وإن اللص –الدولة لهو أرذل اللصوص. وإن سرقة فرد واحد لهو جريمة كبيرة، وإن سرقة شعب كامل لهو أكبر جرما، خاصة سرقة هويته وتاريخه…
لا أريد أن أصدع رأس القارئ بإيراد أرقام المسروقات التي سرقتها فرنسا من أراضينا، وأموالنا، وديارنا فذلك مما اعترفت به وسجلته هي نفسها في الطروس، وسجلناه نحن الجزائريين الشرفاء في النفوس، ولكن ما أحرس على ذكره وتكراره فيما أقول وأكتب هو أنه علينا -نحن الجزائري الأحرار- أن لا ننسى ما فُعِل في آبائنا وأجدادنا، وأن نذكر ذلك ونذكِّر به صبحا وعشيا وحين نظهر، ولنورثه لأبنائنا وأحفادنا، وإيانا أن نغتر بتلك الكلمات »المعسولة« الآتية من وراء البحر، وعلى ألسنة أناس يعدون أنفسهم منا وما هم منا، تلك الكلمات التي تهدف إلى إنْسَائِنا تلك الجرائم الدنيئة، التي لا يدعو إلى نسيانها إلا الذين يشبهون من سماهم الفرنسيون أنفسهم »الحلفاء الحقيرين« من الحركى السابقين واللاحقين ولو أعبجتنا أشكالهم وأوقوالهم، خاصة وقد ارتفعت بذلك أصواتهم بمناسبة هذه الذكرى الخمسين لدحر فرنسا وطردها من هذه »الجنة الأرضية«، فإذا كان لصوص الأموال يسعون لتبييضها، فإن هؤلاء يسعون إلى »تبييض« الوجوه، وجه الدولة السارقة، ووجوه الفرنسيين السارقين، ووجوه الحركى الخائنين…
الهوامش:
1) هذا الوصف »جنة أرضية« عن جزء من الجزائر أطلقه بعض الفرنسيين
انظر: ميشال هابار: قصة خيانة.. (ANEP) ص 65.
2) شارل روبير آجرون: تاريخ الجزائر المعاصرة. ج2. ص 180. دار الأمة. الجزائر و ج.2. ص 111 من طبعة P.U.F الفرنسية.
3) عن هذا الأرشيف، انظر: جريدة الشروق اليومي. في 19 مارس 2012. ص 9.