-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

 المنصور: حاجب الأندلس الأعظم

 المنصور: حاجب الأندلس الأعظم

بدأ حياته حمّارا يكسب قوته من نقل أرزاق النّاس وبضائعهم، حتّى أنّه لمّا ورد على قرطبة مع رفاقه يقودون رواحلهم، وقادمين إليها من الجزيرة الخضراء لم يلتفت إليه أحد من همّل المدينة ولا من أسيادها، فالفتى كان من دهماء النّاس وعامّتها، وقرطبة يومها مدينة السّلالات النّبيلة وبيوتات الجاه والمال والعلم، وحتّى لمّا آوى إلى مسجدها، وصارمن طلبة جامعتها بقي بها طالبا مغمورًا لا يبالِ أحد ممّن درس معه ولا ممّن سكن بجواره بوجوده، لكِنّ ذلك لم يرزأ في عزمه شيئًا ولا إزورّ به عن طموحه، فكان يغدو إلى الجامعة صباحًا فينهل من العلم ما شاء اللّه له أن ينهل، وبعد الظّهر يروح الى عمله الى أن تغيب الشّمس ويزول الضّيّاء. فلما تخرّج ونال الأجازة كانت قرطبة قد طابت له وطاب له هواؤها، واستلذّ الحياة فيها، فقرّرأن يقيم بها ويعيش فيها. ورغم بدايته البائسة وسنين شظف العيش والعسرالّذي لفّه فيها إلاّأنّه لم ييأس ولم يجزع وانتظر فيها حظّه من النّجاح، فطريق المعالي في قرطبة ممهّدة للعباقرة وأصحاب الذّكاء والنّباهة من أمثاله. ومن أجل كلّ ذلك بقي يكتم حلمه وأمله فلم يفضي بهما إلاّ مرّة واحدة لصحبه الّذين اعتادواالانصراف معه الى ضفّة الوادي الكبير بالمدينة بعد تقضّي حلقات الدّرس بالجامع.

1ــ توق همّة و صدى قلم:

كان المنصور ابن عامر مجتمعًا مع أربعة نفر من رفقانه على سُفرة من طعام بجهة النّاعورة من مدينة قرطبة، فهمس وهو منصرف الذّهن عنهم:

 ” لابُدَّ لي أن أملك الأندلس، وينفذ حكمي فيها”

فانفجرالصّحب ضحكًا واسترسلوا فيه لمّا ظنّوه مزاحًا منه وتفكّها، وهمّوا يتندَّرون منه.

لكنّه أوجمهم بعزمه الثّابت ورزانته وقال: ” تمنُّوا عليّ!

فقال ابن عمّه: أتمنّى أن أتولّى أمر المدينة!

وقال الرّفيق الثّاني أتمنَّى أن أتولّى حِسبة السّوق.

وقال الثّالث: أتمنّى أن أتولَّى القضاء بجهتي فإنّي أحبّ التّين وأحبّ أن أتشفّى من أكله.

ثمّ إلتفت ابن عامر الى الرّابع وقال: وما الّذي تتمنّاه أنت؟

لكنّ الرّابع لم يستسغ مثل هذه الأحلام فقال له ساخرًا: إن أنت تولّيت حكم قرطبة فآمرأن يُطاف بي عاريًا على ظهرحمار بين أزقّة المدينة وأسواقها، في يوم صيفٍ حارّ وأجعلهم يصبّون على رأسي وجسدي عسلا  ليجتمع عليّ النّحل والذّباب.

فلمّا تملّك ابن عامر ولّى ابن عمّه المدينة وجعل صاحبه الثّاني على السّوق وكتب للثّالث بالقضاء في جهته، وأغرم الرّابع مالاً كثيرا حتّى أفقره، ثمّ حمله على ظهرحمار وطوّف به في أسواق قرطبة وأزقّتها ونودي هذا جزاء من سخر من ابن عامر، ولم يعرف له قدرًا.

عندما تخرّج ابن عامر من جامعة قرطبة لم تعد نفسه تستسيغ عمل الحمّارونقل بضائع النّاس طول النّهار وأناء المساء، ففكرّ في عمل شيئ بإجازته العلميّة وما اجتناه من معرفة من جامعة الحضرة يرفعه ويرفع من قدره، فأجهد عقله مفكّرًا وطال به التّفكير أيّاما وأيّاما حتّى خطر له أن يفتتح دكّانًا على باب الزّهراء يكتب فيه رسائل المتظلّمين وعرائضهم الى موظّفي الدّولة وخاصّة المملكة، ومن هنا بدأ اتصاله بالقصر، ومعه بدأت رحلة صعوده وسطع نجمه، وعرفه التّاريخ وعرّف به.

ومثلما غفل عسس قرطبة عن محّمد بن عامر حين دخل المدينة أوّل مرّة فلم ينتبهوا اليه ولا الى من كان في صحبته، كذلك غفل عنه التّاريخ في دهره الأوّل، وأدرج سيرته في طيِّ الاهمال والتّجاهل، ولم يلتفت إليه إلاّ عندما سما شأنه فولي أمر قرطبة وتملّكها. حينها بدأ التّاريخ يبحث في سيرته، ويتتبّع خُطواته، ويُسجل أمره، ويكتب في مناقبه ونوادره وطرائفه.

 وقد تشابهت تراجمه بين كتب التّاريخ الإسلامي، فكلّ كان ينقل عن غيرهه وينهل ممّا كتبه من سبقوه، فأخترنا لنعرّف به ما أفاض به المقري وأوجزه في كتابه”نفح الطّيب من غصن الأندلس الرّطيب”: أنّ الملك الأعظم الحاجب المنصورهو  محمّد بن عبد اللّه بن عامر بن عبد الملك المعافري من قرية تركش، بالجزيرة الخضراء، وجدّه عبد الملك هو الوافد على الأندلس مع طارق بن زيَّاد في أوّل الدّاخلين العرب…رحل الى قرطبة وتأدّب بها، ثمّ اقتعد دكّانًا عند باب القصر (الزّهراء) يكتب فيه لمن يعِنُّ له أن يكتب من الخدم والمرافعين للسّلطان، إلى أن طلبت السّيدة صبح أمُّ المؤيّد من يكتب عنها، فعرّفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر، فترقَّى إلى أن كتب عنها، فاستحسنته ونبّهت عليه الحكم ورغّبت في تشريفه بالخدمة، فولاَّه الحكم قضاء بعض المواضع فظهرت منه نجابة، فترقّى الى الزّكاة والمواريث باشبيليا، ثمّ نقله الحكم من القضاء الى الوزارة لإبنه هشام..”ومثلما تمكّن ابن عامر من عقل الخليفة الحكم ببديع بيانه تمكّن من عقل السّيدة صبح زوجه بعذوبة لسانه، وبجزالة عباراته، وبما استمالها به من جميل الهدايا وحسن الخدمة ما لم يتمكّن لغيره. ومع ذلك فإنّ بعض المؤرّخين استغرقوا في الخيال كثيراواختصروا بداية صعوده في اعجاب السّيدة صبح به، ثمّ تطوّرهذا الاعجاب الى شغف وهيام، فعلاقة حبّ وعشق مبتذلة بين زوجة خليفة كبير وبين شابٍّ وسيم، وأنّ تلك العلاقة هي التي جعلت ابن عامر يترقّى في المناصب حتّى صار وصيًّا على وريث العرش هشام، ولشعري إنّ هذا لتعليل مبتذل تنكره النّفس ولا يستسيغه عقل. تشابهت حبكة روايته مع حبكة رواية العبّاسة أخت هارون الرَّشيد، الّتي زعمت أنَّ العبّاسة أحبّت جعفرالبرمكي حبّا شديدًا وبادلها هو نفس الشّعور، فلمّا علم هارون بذلك ثارغيظه وصبّ جام غضبه على البرمكي وعلى أفراد عائلته فأذاقهم ويلات الموت والسّجن والعذاب. وما هذه إلاّ روايات مدخولة كانت العامّة تتسكّع في التّحدّث بها والخوض فيها، ثمّ سرت في كتب التّاريخ ونقلها من نقلها دون إمعان نظر،أوإعمال عقل.

لم يكن اعجاب صبح زوج الخليفة بابن عامراعجاب امرأة عاشقة بجمال سحنات رجل وسيم، وطلاقة وجهه،وعذوبة أشعارالغرام التي كان يبعث بها بين اللّيل والنّهار وانّما كان إعجاب سيّدة في القصربمواهب موظّف وقدراته فاحتاجت إليه لتأديب ابنها الّذي سيكون خليفة للمسلمين وملكا على قرطبة،فاطمأنّت اليه واستغلّ هو حاجتها إليه ليرتقي الى ما ارتقى إليه، فلطالما أخفى الوجه البديع وصولية صاحبه، وسوء نيّته.

 2ــ الحسم الحزم والانضباط طريق المعالي:

كان الحكم المُستنصر عالمًا وأديبًا وشاعرًا، استهواه جمع الكتب وتزيين مجلسه بالعلماء، ودولته بالموظّفين الأدباء، لكنّ هذا لم ينفِ عنه أنّه صاحب أمر وصولجان فقد كان سياسيّا محنّكًا ومحاربًا فذّا، ومميّزا للرِّجال، يتفرّس فيهم النُّبوغ والنَّباهة ويتوسّم فيهم مخايل الذّكاء،فما أن بلغه صدى قلم ابن عامر، وبديع بيانه حتى استدعاه ليختبره ويعهد إليه بالمهمّات الصّغرى ثمّ الكبرى فكان كُلّما كلّفه بمهمّة إلاّ وتميّز في أدائها، أو ولاَّه منصبًا إلاّ أحسن تصريفه وأظهر فيه نجابة ومهارة عاليتين.أرسله الحكم الى بلاد المغرب كي يستميل زعماءها فيقبلوا الانضواء تحت راية الخلافة الأمويّية بالأندلس ويخلعوا عنهم طاعة الشّيعيّ فنجح ولم تخب فراسة الخليفة المثقّف فيه فرفع من شأنه ورقّاه في المناصب وجعل منه رئيس الشّرطة والرّجل الثّاني في الدّولة بعد حاجبه عثمان المصحفي.

 وإلى جانب مهاراته السّياسيّة كان ابن عامر مداهنًا كبيرًا حريصًا على مداراة علية القوم والتودّد إليهم، فكان يُظهر لهم النّصح ويطلبه منهم حتّى كسب ثقتهم واطمئنانهم له وميلهم إليه. جاء في كتاب ” البيان المغرب في تاريخ الأندلس والمغرب” لإبن عِذارى أنّ الحكم المستنصر ” لم يزل يقدّم محمّدا ويُؤثره الى أن ولي العهد ابنه هشام، فزاد مقداره عنده لخاصّته بوليّ عهده، ومكانه من السّيدة والدته،فأحتاج النّاس إليه،وغشوا بابه،فأنساهم من سلف من أصحاب السُّلطان سعة اسعاف، وكرم لقاء، وسهولة حجاب، وحسن أخلاق…” كتب المقري في “نفح الطّيب” أنَّ الحاجب المنصور “تصرّف قبل ولايته في شتّى الولايات، وجاء من التّحدّث بمنتهى أمره بآيات، حتّى صحّ زجره،وجاء بصُبح فجره، تُؤثرعنه في ذلك أخبار،فيها عجب واعتبار فقال يمنّي نفسه بملك مصر والحجازويستدعي صدور تلك الأعجاز:

منع العين أن تذوق المناما         حُبُّها أن ترى الصّفا والمقاما.

لي ديون بالشّرق عند أُناس       قد أحلّوا بالمشعرين الحراما.

إن قضوها نالوا الأماني وإلاّ      جعلوا دونها رقابًا وهامَا.

عن قريب ترى خُيول هشام       يبلغ النِّيل خَطوها والشّاما.

وبقدرما تجذب صور حزم المنصور وحسمه وانظباطه قارئ سيرته إليه وتُثير خياله،فيميل إليه ويريد أن يعرف عن شخصه أكثر فيستلهم منه، فإنّ صورالإسراف والمغالاة في الحزم والحسم تُذعِر قارئ هذه السّيرة وتُنفّره منه.

 عندما مات الحكم المُستنصر ترك الملك لولده هشام المؤيّد، وكان هشام طفلا صغيرا لا يقرّ خيرا ولا ينكرشرّا، ولا يُميّز بين طيّب وخبيث، وفي أمور الحرب والسّياسة أنأى وأبعد، وكان الحاجب المصحفيّ ساعتها هو القابض على أمور السّياسة يوجّهها كيفما شاء، وكان عليه أن يقوم بالأمرمكان هشام ويسيّر الدّولة باسمه، لكنّ المصحفيّ لم يكن رجلاً عسكريّا ولا رجلا ذا همّة ولا جدّة، وانّما بلغ ما بلغ من علوّ شأن ليس لسابقة مجد، وانّما لإصطفاء الحكم له وإستوزاره إياه. فحدث أن جاشت شراذم الممالك النّصرانية في الشّمال بموت الحكم،وطمعت في انتهاز الفرصة فأغارت على الثّغور وجاست خلال ديّار المسلمين،فأرسلت الثّغور في طلب النّجدة منه لكنّهم لم يجدوا عنده نصرة ولا نجدة, ورغم أنّ ابن عامر لم يكن بأمهر من المصحفي في ادارة الحرب فإنّه أنف من هذه الدّنيّة، واقتنص الفرصة لمّا لاحت له في شجاعة وحزم وأشار عليه بالجهاد واعداد الجيش لردّ الغزو وعرض عليه دون تردّد أن يقوم هو بالأمر فوافقه المصحفيّ على ذلك ووافقه بقية الوزراء، فأدّى المهمَّة وكان بحقّ أهلا لها.

قال البلاذري:” أنّ محمّد بن عامر خرج لثلاث خلون من شهر رجب سنة 366هجرية،ودخل على الثّغر الجوفيّ فنازل حصن الحامّة من جليقيّة، فحاصره وأخذ ربضه، وغنم وسبي، وقفل بالسّبي والغنائم الى قرطبة. فعظم السّرور به وأخلص الجنود له لما رأوا من كثرة جوده، وكرم عشرته، وسعة مائدته، فأحبّوه والتفّوا به، وكثر إحسانه إليهم، وإفضاله عليهم، فأدرك بذلك سُؤله، وبلغ مأموله.”

غيرأنّ حزمه وحسمه الّذي تجاوز به الى ذروة قوّته وسِنام مجده وجعل منه الحاكم الفعليّ لقرطبة هو نفس الحزم والحسم الّذي جعله يبطش بخصومه وبمن ارتاب في أمر ولائه له ولو كان من نسله. فلمّا تغيّرت نفس ابنه عبد اللّه عليه بطش به بطشته الكبرى. كان عبد اللّه يرى نفسه أشجع وأرجل وأفهم وأقدر من أخيه عبد الملك، وأنّ أباه قد أحظى أخاه عليه فظلمه بتقديمه إيّاه عليه، فذكى في قلبه سعير نار الحقد وخطر له الوثوب بأبيه والثّورة عليه على أن يقسّم الملك بينه وبين عبد الرّحمان بن مطرف والي سرقسطة، فتكون حضرة قرطبة له والثّغر لعبد الرّحمان المتواطئ معه، وانبثّ الخبر الى المنصور وتيقّن منه فاستدعى ابنه عبد اللّه من سرقسطة وأظهرله مبرّة وموادعة وحنانا، ثمّ حمله معه في عسكره بعد أن أوقع بعبد الرّحمن بن مطرف فقتله وذهب يُنازل مدينة شانت اشتبفان، غير أنّ عبد اللّه لم يطمئنّ إلى لين أبيه فما أن حمي وطيس المعركة استغلّ انشغال جند المنصور بالقتال، وفرّ وبعض الغِلمان من معسكر أبيه، وإلتجؤوا إلى غرسيه بن فرديناند صاحب آلَبَة فأجاره فلمّا سمع المنصور، تحرّك لغزو غرسيه كونت قشتاله وطالبه بتسليم عبد اللّه وأقسم له أنّه لن يقلع عنه حتّى يُمكّنه من ابنه فامتنع غرسيه وعاند، فقاتله المنصور حتّى هزمه، فوافقه على ما أراد من شروط، وحمل له ابنه عبد اللّه، لكنّ المنصور كان قد وكّل به من يقتله قبل أن يصل إليه فقتله، وقطع رأسه وبعث به إلى قرطبة فازداد بما فعله بابنه هيبة، ومُلئت قلوب النّاس منه ذعرَا.

إنّ رجلاً مثل المنصور بدأ وحيدا ومعدما وألقى بنفسه إلى كلّ كريهة،وإقتحم المخاطروتغلّب على جميع الصّعاب وأزال كلّ العقبات حتّى وصل إلى ما وصل إليه وصار في منصب الملك تأبى عليه نفسه أن ينزلها أحد من عرشها الّذي ترقّت في مراقيه، وأنّه كلّما زاد رقيّها زاد معه خوفها وخيالاتها وهواجسها، وظنّنت بحاشيتها وولدانها الظّنون، فسعت للحفاظ على المجد الّذي بلغته بأيّ ثمن كان. وكذلك عندما يغشى وهم التّمجد صاحبه فتعمي بصيرته فيصبح لا يرَ إلاّ نفسه وسُلطانه فيجيز لنفسه جميع الوسائل الوصوليّة والدّمويّة من أجل بلوغ غايته والحفاظ عليها.

3ــ دسيسة وغيلة في القصر:

كان الفتيان الصّقالبة أكثر تنظيمًا وأحدّ شوكة ومركز ثقل كبير في بلاط الزّهراء، جيئ بهم أوربّا الشّرقيّة كعبيد للخدمة في جيش الدّولة وإدارتها وحراسة الخليفة. وكانوا ثاني العقبات في طريق رحلة صعود محمّد بن أبي عامر بعد عقبة المغيرة بن عبد الرّحمن النَّاصر أخو الحليفة المتوفّي، وشاءت الأقدار ألاّ يحمل المنصور همّ إزاحتهم، وهمَّ إزاحة المغيرة من طريقه ويتكفّل الحاجب المٌصحفيّ بذلك، فعندما مات الخليفة الحكم أخفى خادماه الخاصّان فائق وجُؤذر في البداية خبر موته على على الجاجب المُصحفيّ وسائر رجال الدّولة، ثمّ تشاورا فعزما على ردّ الأمر إلى المُغيرة على أن يُقرَّ إبن أخيه هشاما على العهد بعده، ثمّ أرسلا في طلب المصحفيّ فحضر فأخبراه بالوفاة وبما عزما عليه من توليّة المغيرة فأظهرلهما موافقته وأبطن الكيد للمغيرة، ثمّ جمع بطانته وأخبرها بما عزم عليه الفتيان الصّقالبة وقال لهم:” إن حبسنا الدّولة على هشام أمّنا أنفسنا وصارت الدّنيا في أيدينا، وإن انتقلت إلى المُغيرة استبدل بنا وطلب شفاء أحقاده” فأشاروا عليه بقتل المغيرة، لكنّهم جبنوا فيمن يقوم بهذا الفعل فقال محمّد بن عامر” أنا أتحمّل ذلك عنكم إن أجذبني إليه “، ثمّ نهض على الفور وذهب الى دارالمغيرة فقتله فلمّا وصل الخبرالى الصّقالبة غضبوا وازدادت الوحشة بينهم وبين الحاجب المُصحفيّ.

ثمّ عمل ابن عامر على النّكاية بالصّقالبة عند جعفر وأغراه بتنكيبهم،حتّى نكّبهم وأخرجهم من القصر،فزالت العقبة الثّانية من طريق رحلة صعوده، وبقيت عقبة جعفر المُصحفيّ وهي العقبة الكؤود الثّالثة، وأمرها أعوص من بقيّة العقبات.

أدرك محمّد بن عامر سُؤله، وبلغ مأموله، من الغزوة الأولى إلى بلاد جليقيّة، وكان لهذا الظّفر أثره في نفوس الجند والوزراء فمالوا إليه وأحبّوه، لكنّه لم يتعجّل وبقي يُداهن المُصحفيّ ويُظهر له أنّه يعمل بأمره حتّى لاحت له لائحة فأحسن اقتناصها، ففي الغزوة الأولى لممالك الشّمال لمّا التقى ابن عامر بغالب النّاصري قائد جيش الثّغور وأقوى فرسان المملكة تفطّن أنَّ بين غالب والمُصحفي عداوة مستحكمة فانتهزها وضمّ غالبا إلى جانبه، فتوثّق بينهما التّحالف وتفاهما على سحق الحاجب المُصحفيّ عدوّهما، ثمّ سعى ابن عامر لدى أم الخليفة فاستخرج لغالب مرسوما يرفعه إلى خطّة “ذي الوزارتين” ويجعله يتقاسم الحجابة مع المُصحفي، ثمّ تزوّج إبنته فصار صهره، فلمّا انتبه المُصحفي إلى الخديعة كان الأمر قد فات ولم يستطع فعل شيئ إلاَّ أن يستسلم لنكبته، ثمّ أصدر الخليفة الصّغير أمره بإقالة الحاجب المصحفيّ والقبض عليه وعلى ولده وآله والتّحفّظ على أموالهم، وشدّد ابن عامر في محاسبهم فمزّقهم تمزيقا.

وصل المنصور إلى ذروة قوّته بعد أن سجن المُصحفيّ ومزّق شمله وأضحى بهذا الفعل الحاكم الفعلي لقرطبة وانفرد بشأن الحجابة ثمّ رمى الغرض الأبعد: الإستبداد بالملك وبأمورالدّولة،لكن مازال هناك في المملكة من يجرؤ فيقارعه، إنّه صهره وحليفه غالب العقبة الرّابعة في طريق الصعود، لكنّ من مثله لا يصعب عليه القضاء على أية عقبة ولن يعجزه التّخلّص من غالب فماذا يفعل: عمد إلى إعادة تنظيم الجيش حتّى يكون تحت إمرته، فبعث في جلب الجنود من العدوة ليقوّي صفوفه بهم، ورفع جعفر بن عليّ بن حمدون أحد أكبرالفرسان والقادة البربرالى مرتبة الوزارة فلمّا علم غالب إدناء إبن عامر لجعفر أدرك الغرض من ذلك فازدادت الوحشة بينهما وإستعدّ للمعركة. حدث أن كان ابن عامر مع غالب في إحدى القلاع بعد إحدى الغزوات فجرت بينهما محاورة فسبّ غالب ابن عامر وعنّفه بسبب حجره على الخليفة وقال له:”أنت من حجت على الخليفة و أفسدت الدّولة وخرّبت القلاع وتحكّمت في الأمر”

 ثم استلَّ سيفه فضربه به، لكنّ القدر شاء ألاّ تصل الضربة إليه، فقام ابن عامر على الفور، ورمى نفسه من رأس القلعة خوفًا من أن يجهز عليه غالب،ثمّ جاءه بمن بقي معه من الجيش، فلمّا حمي وطيس المعركة وُجد غالب فيها ميّتا.

أضحى ابن عامر الآن ملك قرطبة، وتسمّى بالمنصور، وأضحى يُدعى له على المنابر، وضُربت السّكة النّقود باسمه لكنّه لم يهنأ بعد ولم يطمئن لوجود من يمكن أن يؤثّروا في الجيش ولوكانوا من أوفياء أنصاره، فدبّر الحيلة وقتل جعفر بن عليّ أكبر مُعين له في أمر غالب، فواطأ على قتله الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي فارس العرب، ثمّ قتل هو الأحوص، وإستبدّ بالحكم وحده.

جاء في كتاب إبن عِذارى أنّ المنصور كان آية من آيات فاطرة دهاءً ومكرًا وسياسة: عدا بالمصاحفة على الصّقالبة، حتّى قتلهم وأذلّهم، ثمّ عدا بغالب النّاصري على المصاحفة حتّى قتهم وأبادهم، ثمّ عدا بجعفر بن الأندلسي على غالب حتّى قتله، ثمّ عدا بنفسه على جعفر فقتله، ثمّ انفرد بنفسه وصار يُنادي صروف الدّهر “هل من مبارز؟” فلمّا لم يجد، حمل الدّهر على حكمه، فانقاد له وساعده، فاستقام أمره منفردًا بمملكة لا سلف له فيها.

4 ــ الاستبداد مؤذّن بخراب العمران:

إنّه لا يسع أحدا أبدا أن ينكر ما كان لابن عامر وابنه عبد الملك من فضل الجهاد والحفاظ على قوّة الدّولة وتماسكها، وإعزاز كلمة الأندلس في شبه الجزيرة الإيبيريّة، كما أنَّ تفجير الطّاقات وابراز المواهب والتّرقّي في مراقي المجد وإكتساب قلوب النّاس ليس بمنكرعلى صاحبه، لكنّ مكمن الدّاء، ومشين الفعل هوالإستبداد والإنقلاب على الشّرعية وما قبل النّاس به نظام حكم.

 فالنّاس في زمن المصور وفي الزّمن الّذي سبقه، والزّمن الّذي أتى من بعده لم تعرف سواءً في المشرق أو المغرب حقّ الملك أوالخلافة إلاّ لحيّ واحد من العرب (قريش). صحيح أنّ الدّولة التي أسّسها عبدالرّحمن الدّاخل في الأندلس كانت تعتريها بين الفترة والفترة هزّات ورجفات ويحكمها بين الحين والحين أمراء ضعاف لكنّها كانت سُرعان ما تسترجع عافيتها وقوّتها، ولولا تلك الشّرعيّة (القرشيّة) لكان الإسلام قد انتهى من شبه الجزيرة الإبيريّة وذهب ريحه في القرن الأوّل

لم يرث هشام المؤيّد دولة ضعيفة ولا فقيرة بل ترك له أبوه الحكم وجدّه عبد الرحمن بنيانًا تامًّا وحكما مُستقرّا، ودولة في أوج مجدها وازدهارها، سياسة وثقافة واقتصادا وتنظيما، فلمّا حجر عليه ابن عامر وسلبه سلطانه لم يضف الى هذا البُنيان لبنة جديدة بل كلّ الّذي فعله أن حافظ  عليه وعلى مجده وإشراقه وبهائه إلى حين . فلمّا مات انهار بموته، وبدأ الخراب يستولي على الأندلس فلم يتوقّف حتّى طُرد آخر مسلم منها سنة 1614م.

إنّ من الخطايا السّيّاسية الكبرى للمنصور أنّه طمع في بداية أمره في الخلافة، وفكّر في تنحيّة الخليفة الصّبي والتّسمّي باسم الخليفة، غيرأنّ أعوانه، ومستشاريه حذّروه من مغبّة ذلك لما لمنصب الخلافة من قوّة معنويّة وقداسة في نفوس النّاس فعدل عن ذلك، لكنَّه أضعف السُّلطة الشّرعيّة وقلّص من نفوذها، ولم يتركها تُدبّر أمرا، حتّى أنّ ابن حيّان ورغم إعجابه الشّديد بالمنصور إلاّ أنّه لم يمتنع من توجيه النّقد له وإعتبار حجره على الخليفة أكبر جرمٍ يقترفه في حقّ الأندلس، وأوّل عوامل إنتقاص الدّولة وإنشقاق كلمة الجماعة.

كما لم يكتفِ المنصور للحفاظ على سلطته الفعليّة بالحجرعلى الخليفة وانتزاع كامل الصّلاحيّات منه بل أفرغ الدّولة من جميع كفاءات التي كانت تزخر بها، وأحلّ مكانها ولاءات تدين له وتأتمر بأمره. وإلى هذا أشار ابن حيّان في كتابه “المقتبس” أنّ الدَّولة الأمويّة التي أسّسها عبد الرّحمن الأوّل بقيت طيلة القرون الثّلاثة السّابقة تضع ثقتها في عدد من البيوتات القرطبيّة العريقة، سواءً العربية منها أوالبربريّة أومن الموالي، وقد أمدّت هذه البيوتات الدّولة بعدد من أكفأ الرّجال ومن القوّاد والوزراء والحُجَّاب، وتحوّلت هذه البيوتات إلى أوتاد راسخة للدّولة. فلمّا جاء المنصور وإستبدّ بالسّلطة وحجرعلى الخليفة،رأى في ولائها لبني أميّة خطرا يتهدّده، فبدأ بتحطيم كتلتها، إمَّا بإستمالة رجالها للعمل معه، أو بإذلالهم وكسر شوكتهم والقضاء على كرامتهم،ومطاردتهم، وقتلهم. ثمّ استظهر عليهم بهؤلاء البرابرة من عدوة المغرب فعلاّهم على طبقات أجناد الأندلس، فإنتهى الأمرإلى ماهم الآن بصدده من ابطال الخلافة وتفريق الجماعة والتّمهيد للفتنة والإشراف بالجزيرة على الهلكة، فتحوّلت الأندلس إلى جمرةٍ تحتدم ونارًا تضطرم نفاقًا وشقاقا. ويضيف ابن عِذارى في “البيان المغرب” أنّ المنصور وبعد أن إستبدّ بالملك: ” أخذ في تغييرسير الخلفاء المروانيّة في استجرار الأمر لنفسه وسبك الدّولة على قالبه، فأدّاه ذلك إلى مضادّة ما كانوا عليه، فعوّض بدل اللّين غلظة وبالسّكون حركة وبالأناة بطشة، وبالموادعة محاربة…، وأذلّ قبائل الأندلس بإجازة البربر، وأخمل بهم أولئك الأعلام الأكابر، فإنَّه قاومهم بأضدادهم، واستكثر من أعدادهم، حتّى تغلّبوا على الجمهور وسلبوا منهم الظّهور ووثبوا عليهم الوثوب المشهور الّذي أعاد أكثر الأندلس قفرًا بيادا وملأها وحشا وذئابا…” وهذاهو السّبب الثّاني لإختلال الدّولة الّذي أدى إلى إنهيارها.

  لم يدرك المنصور أنّه رغم كلّ ما أحرزه من مظاهر السلطان والمجد وما أحرزه من انتصارات على نصارى الشمال واذلالهم  وما أسبغه حكمه على الأندلس من أسباب السكينة والعزة والأمن والرخاء، ورغم انّه لم يستخدم سلطانه إلاّ لخير دينه وتفانيه في الذود عنه وخيرالامة التي نصب نفسه حاكما عليها واخلاصه في خدمتها الا ان ذلك لم يكفِ لحمل الشعب القرطبي على نسيان قضية خليفته الشرعي.أضف الى ذلك كلّه أنّ تلك الوسائل الدموية التي كان المنصور يلجأ اليها ليتخلّص من خصومه ومنافسيه كانت تباعد بينه وبين الشعب، فما كان الشعب ليمنح المنصور حبّه وولاءه وإنما كان يتوجّس منه خيفة ورهبة وهذا ما اشاراليه ابن حيان وهو يشرح العيوب الباطنة والخفيّة التي أدّت الى الانهيار المفاجئ لذلك البناء العتيد، وهي عيوب بدأت في أواخر عهد الحكم المستنصر ثم استفحلت في عهد الدّولة العامريّة رغم أن الأمجاد العسكرية والقوة الظاهرة كانت تلقي حجابا كثيفا سترها عن الابصار.

لقد كانت الفتنة جاثمة تحت هذه القشرة الظاهرة من القوة والعظمة، ولم يكن كلّ هذا إلاّ مظهرًا كاذبًا، فلمّا تصدّعت واجهة الدولة بعد وفاة المظفّر بن المنصور وإعلان أخيه عبد الرّحمن شنجول أنّ هشام المؤيّد عينّه وليًّا للعهد، اذا بالبنيان الشامخ ينهارفي لحظات على يدى بضعة عشر رجلاً من أراذل العامّة، بسرعة مدهشة لم يكن يتوقّعها أحد، وفي هذا يقول عبداللّه عنّان: أنّ الأسباب الجوهريَّة لمثل هذا الإنقلاب الصّاعق ترجع قبل كلّ شيئ إلى العوامل النّغسية والأدبيّة، فقد كان نظام الطّغيان المطبق الّذي فرضه المنصورعلى الأمّة الأندلسيّة، وبالرّغم ما حقّقه للأندلس من السُؤدد والرَّخاء، يبدو كالكابوس المُرهق، وكان الشّعب يتوق الى التّخلّص من هذا النّير الّذي سلبه كلّ مظاهر الحرّية، فلمّا تولّى عبد الرّحمن المنصور كانت النّفوس قد أشبعت بغض هذا النِّظام والرّغبة في زواله وكذلك كان سلوك عبدالرحمن وتصرّفاته ومجونه واستهتاره عاملاً جديدا إلى إذكاء هذا البغض وهذه الرَّغبة. وكان لإجترائه إغتصاب ولاية العهد أسوأ وقع في نفوس قوم جُبلوا على تقديس شعائر الخلافة وحقوقها الشّرعيّة، فلبّى القوم نداء الثّورة دون أن يدركوا أنّ هذا هو بداية الانحدار نحوالهاوية.

إنَّ ابعاد المنصور لهشام عن الحياة السّياسية وقضائه على كل مؤهّل في البيت الأموي لتوليّ السّلطة من بعد الحكم الثّاني بدل هشام الصّبي، وقضائه على كامل منافسيه ومطاردته للبيوتات القرطبيّة العريقة التي استند إليها الأمويّون لتعضيد سلطانهم كانت من الأسباب الرّئيسية لهذا الإنحدار.

  ففتح موته الباب واسعًا للتنافس على السّلطة بين أمراء أمويين ضِعاف لم يستطيعوا الدفاع عن كرسيّ الخلافة ولا المحافظة عليه حتّى أنّ محمّد بن هشام المهدي لمّا ثار على العامريّين وفتح قصورالزّاهرة للنّهب لم يكن معه غيرالعنّازين والجزَّارين والسّفلة وسائرغوغاء الأسواق . ممّا حمل الوزير ابن جهور على القضاء على الخلافة نهائيّا سنة 1031م، ومعاودة مطاردة الأمويّين فتواروا عن الأنظار،ولم يعودوا إلاَّ ذكرى من الماضي جميلة يستأنس بها أهل الأندلس كلّما ألمّت بهم المحن والشّدائد، قال بعض من ينقم على المنصور، ويحنُّ إلى زمن الأمويّة:

أبني أميّة أين أقمار الدُّجى          منكم وأين نجومها والكوكب

غابت أسود منكم عن غابها         فلذاك حاز الملك هذا الثّعلب.

يقول دوزي في كتابه “ملوك الطّوائف” لقد كان المنصور رجلا عظيما من وجوه كثيرة،ولكن متى رجعنا إلى مبادئ الأخلاق الخالدة فإنّه يستحيل علينا أن نحبّه ومن الصّعب أن نعجب به، واذا وجب علينا ألاّ نسرف في لومه فإنّه يتحتّم علينا أيضًا أن نستنكرالوسائل التي إستخدمها المنصور في إغتصاب السّلطة والطريق التي شقّها لنفسه لتحقيق أطماعه.

.

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • محمد

    اعتقد أن الخطأ الكبير و المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الحكم. فهل يعقل ان تكون ولاية العهد لصبي. كان يمكن ان تكون لامير اموي اكثر موثوقية