-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بعد نصف قرن.. هل فهمت الأجيال مالك بن نبي؟

بعد نصف قرن.. هل فهمت الأجيال مالك بن نبي؟

في أحد مؤلفاته الزاخرة تأملا وفكرا وعمقا في التخلف الحضاري للأمة العربية الإسلامية، صرحت نجلة مالك بن نبي، رحمه الله، أن والدها أسرّ لها مطلع سبعينيّات القرن العشرين أنه لا يكتب لجيله، لكن ستأتي أجيال أخرى بعد 30 سنة تقرأه وتفهم أطروحاته.
نحن اليوم بعد نصف قرن من رحيل العقل الملهم فكريّا والقلب المهموم وجدانيّا بمصير الأمة، ولا شكّ أن استشرافه باحتفاء الأجيال اللاحقة بأفكاره قد صدُق في الواقع الجزائري، بل إنه انتقل أبعد من المستوى المحلّي، حتى صار بن نبي في صدارة المفكّرين الكبار من العرب والمسلمين، ولعلّ الأكاديمي الموريتاني محمد المختار الشنقيطي لم يخطئ التقدير حين صنفه رفقة 4 أعلام آخرين، وهم عزّت بيغوفيتش ومحمد إقبال وعبد الله دراز وإسماعيل الفاروقي، باعتبارهم أهمّ 5 عقول فكرية أنجبتها الأمة خلال قرنها الفائت.
ها هي أعمال بن نبيّ وتراثه النفيس الذي “جمع بين ثقافتي الشرق والغرب، وبين الفهم الشرعي والموقف الشرعي وبين عمق الفكرة وإشراق الروح”، يملأ المكتبات من طنجة إلى جاكرتا وعبر جامعات العالم في أقطاره الخمس، مثلما يتردد صداها في المنتديات الثقافية والفكرية والأكاديمية الدولية، لأنّ الفكر الأصيل المنطلق والرصين النهج والعميق النظر والدقيق التحليل والتشخيص والاستشراف لا تحدّه الأقطار ولا يحول دون انتشاره الحصار.
كمْ ضايق الاستعمار الفرنسي بن نبيّ كي يحرمه من العلم أولا، ثم من نشر فكره الواعي ثانيًا، مثلما ظلّ “مضطهدا” معنويّا في دولة الاستقلال، خوفًا من إشعاع ثورة العقل والروح التي حمل لواءها عبر كتبه ومقالاته، لكن التاريخ كتب لها في النهاية القبول والصدى بين النخب وأفراد الأمّة، بل إنها أضحت مرجعًا رئيسا في تفكيك أزمة التخلف العربي ورسم معالم الاستئناف الحضاري الإسلامي.
صحيح أن المؤسسة الرسمية في الجزائر بدأت منذ سنوات تعيد الاعتبار لمالك بن نبي عبر ملتقيات متخصصة، حيث تكفلت وزارة الشؤون الدينية قبل 12 عامًا بطبع أعمال ملتقى دولي حول مساره وأعماله في إطار تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية، مثلما أحيت وزارة الثقافة ذكرى وفاته الخمسين هذا العام (31 أكتوبر 1973/2023) بندوة دولية أخرى ربطت بين فكر بن نبي وقضايا الراهن، وهي كلها مبادرات محمودة وخطوات مهمة على طريق محاربة التنكّر والنسيان، غير أنها تبقى جهودا محدودة وغير كافية لإيفاء هذه القامة الفكريّة العالمية حقها من الامتنان والتقدير والاستفادة من فتوحاتها العقليّة في التخلص من معضلة التخلّف القومي عن مواكبة الركب الحضاري الإنساني.
إن الاهتمام الجادّ بفكر بن نبي لا تترجمه ندوات موسمية مغلقة أو ومضات إعلامية في نشرات الأخبار، لتغطية نشاطات ثقافية هنا وهناك، بل ينبغي أن يتوجه رأسًا إلى طبع كل مؤلفاته، خاصة منها ما تعلق بشروط النهضة والصراع الفكري والمسألة الثقافية والقضايا الكبرى التي اشتغل عليها دهرا من الزمن والمكابدة النفسيّة، وما تعلق بها من أبحاث ودراسات نقدية رصينة.
وليس المقصود بذلك استنهاض القطاع التجاري الخاص ولا حتّى المؤسسات الجمعويّة، وقد قامت بجهد معتبر في هذا الاتجاه، لأن إحياء فكر شخصية في مقام مالك بن نبي وترويجه، في أعراف كل الأمم التي تحترم أعلامها، يقع على عاتق الدولة مباشرة، فهل تكفلت حتى الآن بهذا الواجب العلمي والوطني والأخلاقي والحضاري؟
إن المطلوب من مؤسسات الدولة، وعلى رأسها أجهزة وزارة الثقافة، التكفل على الأقل بإصدار 100 عنوان من عيون الأعمال الرائدة التي عنت بفكره وتراثه في الداخل والخارج، وتوزيع الآلاف منها مجّانًا على كل المكتبات الجامعية والمدرسية والعمومية للمطالعة، ليكون بن نبيّ هو المرجع الموجه لعقول أبنائنا ونخبنا وأئمتنا ومدرّسينا في عصر العولمة الامبريالية والاستعمار الجديد والتطرف الديني والغزو الفكري من الغرب والشرق، وهو بوصلة الإرشاد نحو مسالك التقدم الحضاري على قاعدة الأصالة والانتماء التاريخي للأمة.
كم هُدر في الجزائر باسم الكتاب، خاصة تلك الفضائح الموروثة من عواصم الثقافة العربية والإسلامية ما بين 2007 و2015،حيث صدر في صفقات مشبوهة على نفقة الدولة الغثّ والسمين، وعناوين غابرة لا تصلح للنشر حتى ضمن دراسة تاريخ الأدب الجزائري، ومنها خربشات فارغة في صورة أعمال كاملة، بينما ظلّ مالك ذاك النبيّ المقهور بين قومه.
حان الوقت ليدرك المخطئون في تصوراتهم أن بن نبي ليس زعيم طائفة أيديولوجية ولا فصيل سياسي، بل هو من مراجع الأمة الجزائرية والعربية والإسلامية في تاريخها المعاصر، وأنّ الاحتفاء بتراثه من مقتضيات الأمن القومي بمفهومه الشامل، في أبعاده الفكريّة والثقافيّة، أمّا الاستمرار في سلوكيات الإقصاء الممنهج أو العفوي ضدّه فليس أبدا في مصلحة الهويّة الوطنية، بل إنه سيفتح الباب واسعًا أمام تيارات الاختراق والتبعيّة والتغريب الاستعماري.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • بتول

    لطالما شغل مالك بن نبي تفكيري ولكن للأسف لم تتح لي الفرصة لقراءة احد كتبه ماعدا بعض المقاطع هنا وهناك.

  • لزهر

    وللقضاء على الفقر، يجب علينا أن نعمل لمدة ستة أجيال كاملة، أي 180 عاما.