-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بعيدا عن الحقيقة وعلى تخوم الخيال

بعيدا عن الحقيقة وعلى تخوم الخيال
ح.م

عندما أعدت مشاهدة الفيلم الأمريكي-الإيطالي”السيد” للمخرج أنتوني مان تملكتني مشاعر من الغضب والغيظ، وأنتابتني نوبات من الضحك والسّخرية، وإعتبرت ساعتها أنّ الفيلم لا يعدو أن يكون عنصرية دعائية متكررة، تعوّدنا عليها ضد الثقافة التي ننتمي إليها. ومحاولة تلفيقيّة من مخرج الفيلم وكاتب السّيناريو للتوفيق بين تاريخية ولا تاريخية أحداث ووقائع تسردعن طرق الحكي الشعبي وتتناقلها شفاه العامة والقصاصين، هي إلى الأسطورة أقرب منها إلى الحقيقة التاريخية، في محاولة لإعادة صياغة الماضي، وبناء الوعي الجمعي ليس بما يجب أن يتذكر بل بما يجب أن ينسى أو يمحى من الذاكرة المشتركة.

فالفيلم تصويرلذلك الصراع الدائم بين قوتينين متنوعتين في الإنتماء العقائدي والأخلاقي ومختلفتين في النظرة إلى الكون والحياة يحسم فيها بطل الفيلم”السيد” وهوميّت على صهوة جواده، و بطريقة بطولية خارقة النّزاع لصالحه بالتّأسيس لهوية متخيّلة (الهويّة الإسبانية) لم تألفها لغة ذلك الزّمان .

والذي يشاهد الفيلم ثمّ يعود إلى المراجع التَّاريخية التي دوّنت لتلك الفترة فيستنطق نصوصها، سيجد شذوذا فكريا وخروجا كليّا عن السّياق التّاريخي للقصّة الحقيقيّة وعنصرية قومية ودينية عدائية ضاربة بجذورها في تربة من الرّفض والكره والنّفور من الآخر ومحاولة إيجاد تبريرات قيمية وفكرية لإفنائه وإجتثاثه. كما يجد فيها نظرة إحتقارية وإزدرائية لكل ما هو مغاربي أندلسي تنبع من صورة نمطيّة سلبية إبتدعتها الكنيسة الغربية، وتشويه متعمّد كشرط أساسي ضامن لوقف جماح الإسلام وتقوية روابط الهوية المسيحية لأوربا أمام عدوّ مرهوب يتهدّد وجودها.

الرُّهاب الاسلامي والهاجس المغاربي.

إقتبس كاتب السيناريو مادته من مرجعين أساسيّين ليس بتاريخيين بقدر ماهما عملين أدبيين قصصيين. أحدهما هو رائعة بيار كورناي المسرحية الّتي عرضت لأوّل مرة سنة 1637م. والثّاني كتاب “أشعار السّيد” لمؤلف قشتالي مستعرب مجهول في بداية القرن الرابع عشر يشار إليه بإسم عباد ب. كما إعتمد الفيلم كثيرا على المؤثرات البصريّة والإيقاعات الموسيقية لخلق جوّ من التعاطف مع شخصيّة السّيد.

والصورة التي يعرضها الفيلم هي نفس الصّورة النّمطية التي نجدها في الكتابات الغربية أتّجاه العرب أوالمغاربة. إنَّها صورة الخطرالداهم، والرَّمزالمنقذ. صورة  شارل مارتل الذي أوقف تدفّق العرب المتوحّشين على أرض فرنسا، وأنقذ أوربّا من شرورهم ومن شرورسنابك خيولهم في معركة بلاط الشهداء. إنّها صورة تسبح في الخيال وتستجوب التاريخ ماذا لو غزا العرب باقي أوربَّا؟ وهو ما قام به المخرج حيث عمل على تضخيم الإنطباعات السلبية عن المرابطين وتصويرهم كقوى تدميريّة متعصّبة ومتعطّشة للدِّماء. إستولى عليها الإندفاع البطولي الأخروي على ضرورة غزو العالم وتحريره من الوثنية والكفر. فهي لا تريد التوقّف بشبه الجزيرة الإيبيرية بل تسعى إلى غزو ما وراءها لنشرأفكارها الظّلامية والقضاء على المدنيّة الغربية التي لم تكن موجودة أصلا. وبعكس بطل الفيلم الذي صوّره المخرج في جو من النّبالة والشجاعة وبطولة مثالية تأسرالخيال، فإنه عزا إلى يوسف بن تاشفين سلسلة مضادّة من التهوّر و التعصّب، وروحيّة متوحّشة، وخواء قيمي بما يكفي لتثبيت الوهم أن السّيد أمام معركة مجيدة وعادلة. وبالإنتقال من لغة الكلام إلى لغة الصورة والحركة والموسيقى فإنّ الخيال يبلغ درجة من التوهج يصعب معها بعد ذلك للحقيقة التاريخية كمادة خام بين طيات المدونات وصفحات الكتب أن تخمدها.

إن هذا الرُّهاب ضد كل ما هو إسلامي وعربي يمكن إيعازه إلى تلك الأجواء الدينية المسيحية وإلى الخط العام لحركة المجتمع الأخلاقية والفكرية المتطلعة إلى الأبدية والمطلق وثقافة محاكم التفتيش في القرون الوسطى والباقية إلى اليوم في الأدبيات الغربية. إنَّها أجواء المنتصرالمزهوّ بلحظة نصره، والذي بدأ يؤسس فعلا لهوية عقائدية وملكيّة جديدة على أنقاض ممالك الطوائف السابقة، لتظهرأمامه فجأة حركة غير متوقعة أكثر إستعصاء على المقاومة والمواجهة، تمثّلت في حركة المرابطين والتي حكمت على مدّ ممالك الشّمال بالتوقّف وشلّت حركتها وأجّلت سقوط الأندلس لأكثر من قرنين. وبالتالي فإن رواية الكاتب المجهول والفيلم الأمريكي كانا هروبا من الواقع إلى المتخيّل ومخرجا مثاليا من الهزيمة التي لم يكن يستعدّ لها والبحث عن رمز أو منقذ  يجعل منه أيقونة، ويسد به الفراغ الذي سببه ذلك الإنهيار.

المخلّص والطَّاغية

ولد “السيد” وإسمه الحقيقي رودريغو دي بيفار والمدعوالكمباديور كما في مخطوطة  كاتبها مجهول، كل ما يعرف عنه أنه مستعرب عاش في بداية القرن الرابع عشرميلادي، في منطقة  شمال الأندلس، بعد سقوط معظم دويلاتها وممالكها في يد قشتالة والأراغون، أي بعد قرنين من كتابة إبن بسام لكتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ولكي نكوّن فكرة عن مدى إفتقار الكاتب إلى أي عاطفة أتجاه المغاربة والأندلسيين وولعه ببطل روايته “السيد” يجب أن نضع نصب أعيننا أن هذه الأشعار كتبت في القرون الأولى من الحروب الصليبية وهي فترة تميّزت بالهوَس من كل ما هوعربي، وتعبئة عامة ضدّ كل ما هومسلم أجازت فيه الكنيسة سوء معاملة المسلم وإضطهاده وقتله وعزله وتهميشه وإبادته  بكلّ راحة ضمير. ولأن الكاتب مستعرب فإنه يبدو عليه تأثره بالأسلوب العربي في كتابة الرواية التاريخية، ففي الكثير من الصفحات يعثر القارئ على مواقف بطولية وإنسانية ترجع في جذورها إلى مكان آخرغير بيئة الحروب الصليبية التي شهدتها شبه الجزيرة الإيبرية. إنّها ترجع إلى أدب الفروسيّة الذي نشأ في الصحراء العربية ووصل إلى أوربا عبر إسبانيا الإسلامية. كما أنّ أسلوبه يحاكي أسلوب إبن حيان الذي كتب سيرة المنصور بن عامر يصف فيها خلقه وشهامته وغزواته وإنتصاراته. لكن ما يميّزه عن تلك الكتابات الاسلامية أنّه أضاف إليها بعضا من الخوارق والكرامات التي تتناسب مع نفسيته الدينية، ثمَّ تحاشى فيها الوقائع التي هُزِم فيها السّيد أمام قوى المرابطين، وتجاهل السَّنوات التي عمل فيها مرتزقا عند بني هود المسلمين وهي ليست بالفترة القصيرة. كما ذكر أسبابا غير الأسباب الحقيقة لنفيه من قشتالة تنمّ عن عزّة وشهامة.

وبعكس هذه الصورة البطوليّة والخياليّة التي رسمتها مخطوطة”أشعار السيد” فإن إبن بسام  ومن بعده إبن عذارى يعطيان صورة مهزوزة معكوسة وخالية من المروءة تحوطها ظلال كثيفة من الشكّ والرّيبة، فالسيد ليس أكثر من محارب أجيرمن أجل الغنيمة والثروة وبالتالي لا يهم لمن، وفي سبيل من يقاتل. فهو يغيّر معسكره كلّما إقتضت مصلحته ذلك. كما أنّنا لم نعثر عند إبن بسام ولا إبن عذارى على ما يشيد بعظمة وشهامة  وبطولة هذه الشّخصية ولا حتّى على لقب السيد الذي ذكره كتاب “أشعار السيد” بل لقّبه إبن بسام بالطاغية  قصمه الله لبشاعة الجرائم التي قام بها في حق المسلمين ويصفه إبن عذارى فيقول عنه إنه قمط من أقماط النصارى (القمط هو اللّص حسب تاج العروس) حاصر مدينة بلنسيا حصارا عظيما وقطع عنها المرافق حتى إضطرّ النّاس إلى أكل الفئران والكلاب والجيف فلمّا طال عليهم البلاء ولم يجدوا ناصرا عزموا على تسليمها للقنبيطور الذي دخلها بعد أن إستأمنهم على أنفسهم وأموالهم وإشترط على إبن جحّاف المعارفي قاضي بلنسية أن يعطيه جميع ذخائر عبد القادرذي النون، لكنّه قتله بعد ذلك حرقا بالنّار لمّا وقع في نفسه أنه أخفى عليه ذخيرة نفيسة، ولم تزل بلنسيا في يده إلى أن إستخلصها منه مزدلي المرابطي بعد مقتله من زوجته التي قامت بإحراق المدينة ومساجدها وقصورها بإيعازمن الملك ألفونسو الذي رأى أن لا طاقة له بمدافعة قوات إبن تاشفين فقرر الإنسحاب عنها وتركها لألسنة النيران.

ولعل في تسمية إبن عذارى له بالقمط إشارة إلى سبب نفيه من قشتالة،ذلك أن الملك ألفونسو كلفه بتحصيل مال الجزية من مملكة إشبيليا فإختلس بعضها في طريقه، فبلغ ذلك الملك فنفاه من بلاطه، فلجأ إلى أمير سرقسطة  يوسف المؤتمن من بني هود وإنضم إليه بجيشه فعمل عنده مرتزقا عشر سنوات أبلى فيها في الدفاع عن ملكه ومحاربة خصومه الأراغونيين وأنزل بهم الهزائم أكثر من مرة أهمها موقعة المنارة التي أسر فيها كونت كتالونيا ولم يكتف بنو هود بإستعماله ضد خصومهم من نصارى الشمال، بل سلّطوه على أقطار الجزيرة المسلمة كلها. يقول إبن بسّام أنَّ: إبن يوسف بن هود لما أحس بعساكرأمير المسلمين تقبل من كل حدب أسّد كلبا من أكلُبِ الجلالقة يسمّى بروذريق ويُدعى بالكمبيطور فوضع أقدامه على صفحات أنجادها وركّز علمه على فلذّات أكبادها ووطّأ له أكناف بلنسية وجبى إليه المال وأوطأ عقبه الرجال وفي هذا يقول إبن خفاجة مرثيا بلنسيا بعد خرابها:

عاثت بساحتك الظبى يا دار          ومحى محاسنك البلى والنَّار

فإذا تردّد في جنابك ناظر             طال اعتبار فيك واستعبار

أرض تقاذفت النوى بقطينها          وتمخضت بخرابها  الأقدار

كتبت يد الحدثان في عرصاتها       لا أنت  أنت ولا الدّيَّارديار

إن مثل السيد كمثل غيره من المغامرين الصليبيين الذين إمتلأت بهم أرض المشرق، وقدموا إلى الأرض المقدسة بحثا عن الثروة، وليس دفاعا عن الحقّ. أوكما يقول إبن خلدون في وصف حروب العدوان: أنّها تقوم على الغاروالسّلب والنّهب و تقوم بها الأمم المتوحشة الساكنين في القفر الذين جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم في أيدي الآخرين، وليس لهم من قيم المروؤة إلا الشجاعة.

الحبّ والشّرف

وإذا كان السيد الخيالي الذي أنتجه مؤلف مجهول كشخصية روائية فأصبغ عليه هالة من القيم الإنسانية والدينية، وألبسه بدثارمن الأساطيروالرّموزوالبطولة والخرافة إلى حد التزوير في الأحداث والمواقف، حتى رفعه إلى مستوى التأليه الشعبي، قد بقي حبيس الدّفاتروالمخطوطات وألسنة العامة في إسبانيا. فإن الأديب الفرنسي بيار كورناي هو الذي دفع به إلى الإنتشارالكبيرخارج الفضاء الثقافي الأوربي بما نفخ في روحه من مادة شعرية، وبما أغدق عليه من أسراراللّحن الغنائي والإيقاع الموسيقي وجمال الأسلوب والصياغة مستلهما في ذلك الكثير من الأخيلة والأفكار والتي ربّما كانت هي السبب الرئيسي في تهجم النّقاد عليه، ورفض الأكادمية الفرنسية تصنيفه ضمن الأعمال الأدبية حتى قال هو عن نفسه عندما لم يجد ما يدافع به: عندما أكتب يسيل قلمي وعندا أتكلم يجف فمي. فمن بين الإنتقادات التي وجهت له أن عمله هذا لا يعدو أن يكون أكثر من سرقة أدبية جليّة إنتحل فصولها من دراما غليوم دي كاسترو”شباب السيد” التي نشرت ببلنسيا سنة 1621و1625م.

كما أنّ مضمون المسرحية ذاتها وفكرتها التي قصد بها إبراز طبيعة خاصة في شخصية الزّوج ــالسيد-خامينا ــ والتي تمثلت في جدليّة العلاقة بين الحب والشرف قد أنكره عليه الكثير من النقاد وإعتبروه مبالغة ومغالاة وضرب من الإستهزاء الساخر بالنّفس الإنسانية والطبيعة البشرية، فهل يعقل أن يحبّ المرء قاتل أبيه إلى حد الجنون وتنتصر مشاعر العشق والغرام المتقلّبة على طبع الثأروالإنتقام الثابت.

لقد توقف النقّاد عند عبارة:إذهب فإني لن أبغضك أبدا في الفصل الثالث: عندما تدخل خامينا المرأة التي ولعت به تبكي أباها الذي قتله السيد إنتقاما لشرف أبيه وهي تردّد هذه الكلمات أمام وصيفتها: “عندما يطلب منا الشّرف أن ننتقم له، والحب أن نعفو عن الحبيب الذي أساء إلينا”.عندها يخرج لها السيد فجأة بعد أن إستمع إلى ألمها وحيرتها ويضع روحه بين يديها لتفعل به ما تشاء. وفي نفس الوقت يخيّرها بين أن تنتصر لحبها وتعفوعنه أوتنتصرلشرفها فتقتله، يأتي ردّها سريعا:

 “آه يا رُودريغو إنّه لا يهم من كان عدوّك، فلست ألومك أنك غسلت عارك.

لكن لا تسألني عن آلامي كيف تفجرت؟ فإني لن أشكوك أبدا.

لكن ذرني فقط أبكي بؤسي وتعاستي!

لأنّي أعرف أن الشّرف بعد الإهانة، يتطلب حرارة صدر عامر

وأعلم أنك لم تفعل إلا واجبا كان يمكن أن يفعله كل رجل.”

لتنتهي المسرحية بلا حكم أيهما إنتصرهل الحب أم الشرف.

ولعل جمالية الصياغة وبراعة التصوير وشاعرية اللغة عند كورناي هي التي دفعت بطرس البستاني إلى إستنكار تصور المستشرق دوزي الذي جعل من السيد إنسانا لا دين له ولا شرع. بل إنّ بطرس البستاني ذهب إلى أبعد حد في وصف فروسيّة السّيد، والقيم النّبيلة التي إتصف بها، متأثرا بما كتبه كورناي في مسرحيته ملتفا على الحقيقة التاريخية، حتى كتب عنه إن فروسيّته تقترن بالتّدين وحرارة الإيمان وأنّه كان يصوم ،ويصلّي، ويعنى بالحفلات الدينية ويقدّم الهدايا للكنائس،أما ما كان من إحراقه للعافري وتمثيله بالأسرى فإنه رأى أنّ روذريق لم ينفرد بها عن غيره وإعتبرها من عيوب ذلك الزمان، وتاريخ الأندلس حافل بأمثالها، وبأبشع منها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!