-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
كلام حميم

جزائريون في كل فنجان

محمد دحو
  • 4900
  • 5
جزائريون في كل فنجان

وليته كان فنجان قهوة ومودة كما عاش ذلك الجزائريون زمنا طويلا، مساءات قهوة العشية لا تنسى، في باحات البيوت الترابية والقرى البعيدة، وفوق أسطح المنازل المدينية، وعلى طرفي الشوارع وداخل الأحياء وتحت الأشجار الظليلة، هنا وهناك، حيث لقاء الأسر والعائلات في ما يشبه الأعراس والأفراح، بل كان أحلى من أن يوصف بالكلمات وشريط الذكريات، لقد كان فنجان قهوة المساء أمرا مقدسا للغاية، بل ربما صار عرفا لايمكن الخروج عليه مهما كان حال العائلة من يسر أوعسر.

  • وكان دق المهاريس النحاسية يأتيك متلاحقا رنانا في السماء، حيث تضرب بها ربات البيوت حب القهوة التي ما تلبث أن تعطر الأنوف إيذانا بساعات العصر تلك، كانت الأصوات النحاسية الرنانة تأتي أذنيك حينذاك ممزوجة برائحة القهوة وشذى النعناع الذي يعطر الأنوف، ويزين كؤوس الشاي مع بعض الحلوى التقليدية، وما تعرفه تلك الحلقات من ثرثرة شعبية تقطعها القهقهات وضحك الرجال المسنين وبكاء الأطفال، إنه بعض سر ذلك الزمن الجزائري العذب، أو ما كان يعرف حقا بالطبقة الوسطى في بلادنا، وعلى تواضع تلك الجلسات الشعبية الجزائرية كان ود الناس وتحابهم وتوادهم وتآزرهم كبيرا وعظيما حينذاك، وقد تبرم فيه صفقات الخطوبة والزواج ومشاريع بناء البيوت الترابية، كما يجمع خلالها بعض المال للفقراء من الجيران ممن ألم بهم فقد عزيز، أو عزم أحدهم على زواج ولا يستطيع، كما تسوى في تلك الأوقات أحوال بعض المختلفين أو المتخاصمين إصلاحا لذات البين، وقتلا لبعض الخصومات والتوترات العائلية.
  • كان زمنا جزائريا عذبا وجميلا بعيدا عن الأحزاب والوزارات التي لم نكن نرها، لقد كنا نسمع عن شؤون بلادنا عن طريق الراديو، وكان ذلك أمرا جديرا بالتقدير والإحترام، على قول البعض “ما اتشوف العين ما ايضر القلب”، لم نكن مثلا نرى وجه وزير متهم بسرقة وتبذير المال العام، أو مسؤولا كبيرا يضرب الشيتة للرئيس باسم الديمقراطية وباسم التعالف، أو جزارا يبيع لحم الحمير للناس في وهران أو الحراش، أو ابن حركي يتحدث باسم المجاهدين والشهداء وأبنائهم، أو مخبر نذل يشتم حرية الصحافة والصحافيين.
  • لم نكن والحمد لله نرى هذا العجب العجاب بين الجزائريين، وكما يقال الستر أجمل وأرحم، حتى أفواج يأجوج ومأجوج التي صارت تتنزل على ملاعب كرة القدم فتكسر وتدمر وتزمجر كأنها دبابات الرئيس الأسد في درعا أوحمص، لم نكن نرها أو نرى شرها، كنا نسمع ونهتز لصوتي المعلقين صلاح وفؤاد، ونعيش معهما متعة الكرة البيضاء، كانت بلادنا جميلة بأبنائها وقوية بخيراتها، لم نكن حينها ندرك معنى الإنتخابات والصناديق والتزوير الذي رفع شياتين وجهلة إلى أعلى عليين في المناصب والرتب، وأسقط أولاد الحلال الطيبين العفيفة أيديهم هنا وهناك، كنا نعرف رئيس بلديتنا ونعرف نقاءه ونشرب معه فنجان القهوة، ولم يكن له في التزوير أو التدوير حول أو طول، أذكر أننا كنا نسمع عن ممثلنا في البرلمان الذي عشعش في كرسيه ولم نكن نره إلا في رحلات صيد السمان بعد موسم الحصاد مع بعض المستفدين من الجرارات وآلات الحرث والدرس، ممن يزورون له في العام ألف مرة.
  •  أما الوزارة والحكومة والرياسة فكانت بعيدة بعيدة عنا، بعد السماء عن الأرض، وكان والدي عاشقا مغرما بالراديو يسمع أخبار الحروب ويتابع نشرات الأخبار في الليل والنهار، بعد أن يفرض على الجميع حالة من الطوارئ التي لا يجوز لأحد منا الكلام خلالها، إلا عند نهاية آخر كلمة في هذه النشرة أو تلك، وأتابع ذلك معه بحب عجيب غريب، في السنوات الأولى من عمري وفي علاقتي مع الراديو كنت أتعجب كثيرا لمن يتحدثون بداخله، كنت أتساءل ببراءة الأطفال كيف يعيش هؤلاء الناس داخل هذه الآلة العجيبة “الراديو” لقراءة أخبارهم؟والحق أني أحببت اللغة العربية وسحرت بأسلوبها من خلال ذلك الراديو في أيام عزه ومهنيته وليس الآن، من خلال الراديو تعرفت على كثير من أسماء السفراء والوزراء والولاة الجزائريين الذين حفظت أسماءهم عن ظهر قلب لكثرة ذكرهم في تلك الأخبار، والعجب أنه بعد أربعين عاما من ذلك التاريخ لايزال بعضهم محتفظا لنفسه بمنصب وزير أو ربما أكثر، هل تصدقون ذلك؟ محنطون يحكمون بلادنا ورقابنا، إنه فنجان القهوة المر الذي لم يعد الكثير من الجزائريين يفهمون سره، سفراء ووزراء وشخصيات كبيرة يعودون بعد أربعين عاما إلى الواجهة، وأنهم ياللعجب العجاب سيحاورون الشباب الجزائري والأحزاب الجزائرية”أوف لبعضها” وسيسمعون رأي الرعية المسكينة وتصورها من أجل إصلاحات وديمقراطية موعودة، ما هذا الفنجان بل ماهذه الفناجين المرة من الكذب الذي يشربه الجزائريون صبحا وعشية، فمتى سيعود الشهداء يا عمي الطاهر؟
  • أمس التقيت إعلاميا جزائريا في طريقه إلى الكهولة، شربنا فنجاني قهوة معا في الدوحة، ثم مضى بنا الحديث إلى كل الجزائر وشعابها وأيامها، استمعت إليه بحب وشفقة، وأشفقت على نفسي أكثر، تحدث بمرارة عن خروجه المبكر إلى كندا أيام الرصاص والقهر والاغتيالات ببلادنا، ثم عودته إلى الجزائر، كانت أفكارنا واحدة وهمومنا واحدة، وكانت أيضا أحلامنا واحدة، ذكرته بفنجان القهوة في الجزائر أيام زمان فبكى وحن، ثم صرخ لقد مللنا، بل لقد هرمنا نحن الذين كنا شبابا والآن يغادر بنا قطار العمر إلى الكهولة فالشيخوخة، ولا حظ لنا في أن نقدم لهذا البلد الذي نحبه ما نستطيع ونقدر، لقد تغربنا مكرهين، وسافرنا وعيوننا تدمع وقلوبنا تتقطع، ولايزال سي فلان وسي فلان، وعلان وفلان هم الكل في الكل، أين هي فرصة الشباب الجزائري النقي القوي، ومتى سترحل هذه الجثث المحنطة التي تملأ كراسي السلطة في بلادنا، وتملأ قلوب الجزائريين غصة ما بعدها غصة؟ طلبنا فنجاني قهوة ثانية وثالثة، وظللنا نشرب قهوة الفندق، لكن طعمها لم يكن له طعم تلك القهوة الجزائرية الأصيلة من تلك الأيام الماضية، ثم وأنا أودعه قال لي هكذا نحن الجزائريين في كل فنجان، وبلادنا في فنجان آخر أكثر سوادا ومرارة من غير قهوة (السبع) التي كنا نشربها في تلك الأيام.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • AHMEDZINE

    بارك الله فيك يا كريم بن الكرماء .جزائري أصيل تمنياتي لك بالتوفيق و السعادة.

  • خديجة

    كلام بيهز البدن الجزائر عاشت ايام زمان حلوة

  • آنيسة الجزائرية

    الله يبارك فيك على هذا الكلام الجميل الذي عيشنا في ذلك الزمن الجميل بالرغم اننا لم نعشه

  • زينو

    كفيت ووفيت

  • عائشة

    والله صدقت راحت تلك الأيام الجميلةولاأعتقد أنها ستعود ، مقالك كان رائعا لدرجة أنني بكيت وتأثرت كثيرا ، أتمنى أن تستمر في كتاباتك هذه وشكرا