-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

في ضيافة آل عزوزي: العائلة التي آوت مالك بن نبي في آفلو

التهامي مجوري
  • 2046
  • 2
في ضيافة آل عزوزي: العائلة التي آوت مالك بن نبي في آفلو

من بين الزيارات التي قمنا بها رفقة الأستاذ الطيب ورنيد، زيارة حفيد القاضي بن عزوز، وهو القاضي الذي اشتغل معه مالك بن نبي رحمه الله، عندما عين في محكمة آفلو في سنة 1927، وكتب عنه في مذكراته “مذكرات شاهد اقرن”، ومن محاسن الصدف أن الذي زرنا بيته، هو حفيد القاضي بن عزوز، وأبوه عمر الذي كان الأبر بوالده، فعينه ليكون مرافقا لمابك بن نبي طيلة العام الذي قضاه بن نبي في آفلو، وهي المدة التي قضاها بن نبي عاملا مع القاضي في آفلو.

ومن محاسن الصدف أيضا ان هذا الشيخ الذي زرناه اسمه مالك، وفي البلدة ينادونه عبد المالك، وقد روى لنا أن والده عمر سماه على مالك بن نبي، إذ عندما كان بن نبي هنا في آفلو، قال له عمر إذا ولد لي ولد سأسميه مالك وذلك ما وقع، لما رزق ولدا وسماه مالك وهو صاحب الدار التي زرناها.

مالك عزوزي هو حفيد القاضي بن عزوز، متقاعد وكان إطارا في القطاع الفلاحي، ورغم ان الرجل مريض إلا أنه استقبلنا ورحب بنا ترحيبا خاصا عندما علم أن زائره واحد من محبي العلم والعلماء، ويرافقه عضو بالمكتب الولائي للجمعية بالأغواط؛ لأن العائلة عائلة ذات صيت وعلاقة طيبة مع العلماء، فقد زارهم مبارك الميلي رحمه الله وكرموه… وليس غريبا عنهم كأهل فضل من الأعيان، فضلا عن أن طبيعة المنطقة الكرم، وقد وصف مالك بن نبي مدينة آفلو بأنها مدينة لم يصلها الاستعمار بعد، ويقصد بذلك أنها لم تتأثر بالحضارة الغربية ورذائلها، كما تأثرت بها سائر المدن الجزائرية التي عرفها بن نبي قبل ذلك، مثل تبسة وقسنطينة.

مالك عزوزي رغم انه مريض، ومقعد على كرسي، وإلى جانبه مصحف كبير، يبدو أنه لا يغادر المكان الذي يجلس فيه. فعندما دخلنا عليه، شعرت وكأنه يريد أن يقوم لمصافحتنا ولكن المرض حال دون هذه الرغبة، ومع ذلك انتعش واهتز للمواضيع التي تكلمنا فيها عن آفلو وجده القاضي ومالك بن نبي الذي كان صديق والده، وعن محمد البشير الإبراهيمي الذي قضى مدة منفيا من تلمسان إلى آفلو، كما حدثنا عن عمته التي كان يعلمها الشيخ البشير الإبراهيمي اللغة العربية مع ولد أحمد طالب في بيته يوم كان منفيا هناك في أربعنيات القرن الماضي.

كتب مالك بن نبي عن آفلو وعن هذه العائلة في مذكراته حوالي 14 صفحة، ولكنها كمائة صفحة لما فيها من غزارة المعلومات حول المنطقة، لأنها كتابة مفكر ومتأمل في واقع اجتماعي سياسي ثقافي حضاري لمدة عام، يلاحظ فيها حركة جزئية ضمن حركة كونية متفاعلة معها، ومع ذلك لمس خصوصية المنطقة وفضائلها التي لا تزال تمثل صفاء الجزائر الذي فقدته بقدوم الاستعمار ورذائله.

مدينة آفلو تقع في القطاع الوهراني الذي يختلف في بعض أموره عن باقي المناطق، بحيث يقول بن نبي “زايلني شعور بالاغتراب إذ بدأت لهجة الناس تتغير، فالناس الذين استقلوا معي مركبة الدرجة الثالثة المتقشفة يقولون (واه) إذا أرادوا أن يقولوا (نعم)، وفي قسنطينة نقول (هيه) أو (نعم) حسب درجة الثقافة، فهذه الـ(واه) بدت لي غريبة كأن فيها شيئاً من اللغة (البربرية) [مذكرات شاهد القرن].

وأشار بن نبي إلى الكثير من العادات.

ومن مميزات أفلو التي ذكرها ولا تزال قائمة إلى اليوم، فقد ذكر “الكسكسي” الذي بقي يشتهيه منذ ذلك اليوم…، والزبد والعسل والطبق الذي خص به لكونه ضيف الشرف…، وطبيعة خدمة سيد القوم لضيفه،”لكن الذي أسرني –يقول بن نبي- أكثر من أي شيء آخر… سيد القوم وقد بدت عليه الأصالة والنبل، كان القاضي شيخاً تلفه مسحة من الجمال؛ وجه مستدير يعتمر بعمامة من (الأغباني) يبين تحتها جبين محدودب شيئاً قليلاً، يبدي نظرات صافية تحت حاجبين غليظين أبيضين. كان رَبْعةً ويداه ممتلئتان كشيخ سليم البنية، أنيق الملبس، في برنصه نوع من النسيج الدقيق الناعم فوق قندورة من الجنس نفسه، تُبدي فتحتها من تحتها (غليلة) سترة و (بديلة) صدرية، زُرِّرت بأزرار صنعت من الخيوط وفق طراز عهد مضى” [مذكرات شاهد القرن].

ورغم أن هذا الرجل قاضي ومكانته في ذلك الوقت ليست بسيطة، إلا أن العرف الآفلوي يقتضي أن يبقى “خلال المأدبة بعيداً عن ضيوفه. إنه يأكل عندما ينتهون من الإناء نفسه، فهذه سمة الضيافة سرت في دمه عبر الأجيال [مذكرات شاهد القرن]”.

كما لم يغفل بن نبي عن ذلك السجاد والزربية والبساط التي ينسجها وينتجها سكان جبل عمور…. ومصباح الإضاءة بالبترول البسيط، بساطته تنبئ عن النبل والعراقة.

لقد وجد بن نبي كما يقول “جو الجزائر المفقودة، والأيام التي تلت أكّدت في نفسي هذا الشعور، فها أنذا في الجزائر البكر في زاوية لم يقتحمها الاستعمار بعد، كأنما قد لاذت بها البلاد لتضع في حرزها الأمين كنوزاً من لطف المعشر والكرم والإخلاص وحب الخيل والبراءة”؛ بل و”كأنني في متحف حفظت فيه تلك الفضائل، التي ضاعت في ناحية أخرى بسبب ذلك الاتصال المهين بالحدث الاستعماري، ولم أجد نفسي يوماً أفهم الآية الكريمة كما فهمتها ذلك اليوم (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل 33]، لست أدري إذا كنت قد فهمتها بهذا الوضوح تلك اللحظة. لكن الذي استولى على ذهني فوراً مع شيء من القلق، ذلك الخطر الذي يتهدد ما اؤتمنت عليه (أفلو) من فضائل دون أن يدرك السكان أنهم الأمناء عليها” [مذكرات شاهد القرن].

فلم يشعر بالغربة بل نسي ما أشعره بها عندما سمع كلمة “واه”، فنسيها ولم يسمع من قالها أو كررها؛ بل شعر أنه في عالم أحبه فأحبه أحله، رغم أنه في شكله كانت متفردا إذ يقول “كنت حاسر الرأس في سروال (رعاة البقر)، ينتهي عند الساق في حزامين من الجلد، وهو هندام تفرَّدتُ به بين الحاضرين الذين يضعون العمائم ويرتدون (البرانص) و(القندورات)” [مذكرات شاهد القرن].

مدينة آفلو في ذلك الوقت لم يكن بها فنادق، فكانت بيوت الناس هي الفنادق لكل من يمر بها، و”منزل الشيخ (بن عزوز) هو بالتأكيد الفندق الأكثر رواجاً. قاعة الضيوف هي قاعة للطعام نهاراً وللنوم ليلاً، فيها يتمدد على السجادة الكبيرة ضيوف اليوم وأولاد العائلة غير المتزوجين… وهكذا أصبحت -يقول مالك بن نبي- واحداً من أعضاء مائدة الشيخ (بن عزوز)، ذلك الرجل الذي حمل على كاهله بكل اعتزاز تقاليد الضيافة، وقد جعل منها سبب وجوده حقاً، -ويضيف بن نبي- غدوت من ناحية أخرى الصديق الذي لا يفارق ولده سي (عمر)، وحين يحين وقت الطعام كنا نتوجه إلى منزله كما أتوجه إلى منزلي في تبسة. كانت هذه عظمة، إنما بغير حركات طنانة رنانة، لأنه لا منّة فيها ولا استكثار. فالناس في المدن لا يستطيعون فهم هذه العقلية أو ذلك النبل الذي حفظته الطبيعة في عروق البدوي” [مذكرات شاهد القرت].

وما كان يقلق بن نبي يومها هو امكتنية ذهاب هذا الصفاء وهذا المخزون الخلاقي الذي تتمتع به آفلو، كما ذهب من مدن أخرى بسبب الاحتكاك بالإستعمار القادم بمكائده ومفاسده، كما ذهب ببعضها من قسنطينة ومن تِبسَّة، فقد اكتسب معرفة عملية بخطر الاستعمار، وكما يقول عن نفسه “فقد كان لي أن أتوقع مفاسده بين أولئك الناس الذين يعيشون العصر الذهبي الذي عرفته جدتي الحاجة (بايا)، تسودهم البراءة في عاداتهم وقيمهم الأخلاقية وشروط حياتهم الاقتصادية” [مطكرات شاهد القرن].

ومن الصور الصافية التي يتأسف على غيابها من بعض المدن التي طالتها رذائل الإستعمار… أنه طيلة المدة التي قضاها في آفلو لم ير أحد يقسم بالله في المحكمة ولو كان في حقه الذي سيضيع، وهناك نادرة تركت أثرها الكبير في نفس بن نبي وهي قصة تشبه الخيال، قصة ذلك الراعي الذي “أودع قطيعه المؤلف من خمس مئة أو ست مئة جمل إلى من يرعاه. ثم افتقد الراعي ذلك المؤتَمَن ولم يعد يراه ويئس من رؤيته ثانية. وبعد مضي عامين يرى فجأة قطيعه في مضرب الخيام وقد بلغ ضعفين: ذلك أن الذي أخذ القطيع ليرعاه تاه في الصحراء بحثاً عن المرعى والكلأ. وقاده ذلك إلى حدود السودان. ومدة الذهاب والعودة التي حكمتها مسيرة القطيع بما يحفظ عليه صحته وإنتاجه، قد استغرقت عامين، وخلال ذلك فإن الراعي الأمين لم يأخذ من هذا القطيع غير ما جادت به أثداء النوق من لبن لغذائه” [مذكرات شاهد القرن].

كما روى قصصا أخرى كلها تصب في نفس المصب، وهو مصب القيم الأخلاقية العالية التي تمليها طبيعة المنطقة وعوائدها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • بومبروك

    رحم الله العباد والبلاد

  • مواطن

    السلام عليكم لقد فرحت كثيرا بهذا الموضوع و سادنى شعور لا أستطيع ان او صفه عن أخلاق أجدادنا و تمنيت من صاحب القلم لو زادنا من قصص أهل آفلو التى ذكرها مالك بن نبى فى مذكراته كما لا أنسى ان أشكر صاحب الموضوع و السلام