-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا يحقدُ المخزن على الكراغلة؟

بقلم: أمين كرطالي
  • 12965
  • 1
لماذا يحقدُ المخزن على الكراغلة؟

بين الفينة والأخرى نجدُ بعض الجهلة من ذباب المخزن وأبواقه ينعتُون ساكنة الجزائر بـ”الكراغلة”، ويقصدون بهذا الوصفِ الحطَّ من الجزائريين أو التَّقليل من شأنهم، زعموا، وأنا متأكّد أنّ هذا السّلوك لن يصدر عن مؤرّخ مغربي مُحترم، لأنّ المؤرّخ يتعامل بوثائق التاريخ ويحتكم إلى كتابات المؤرخين، وليس إلى أساطير المخرِّفين وحكايات الحكواتية والمهلوسين.

وقبل أن أخبركم عن سبب حقد المخزن المغربي على الكراغلة، يجب أن نقف عند بعض المسلّمات التاريخية، وهي أنّ الكراغلة لا يوجدون فقط في الجزائر، بل نجد كراغلة في تونس وفي ليبيا وحتى في المغرب، فهم في الأصل عثمانيون، فالإنسان يُنسبُ إلى أبيه، وفي الجزائر صاروا جزائريين بحكم الولادة والنشأة والإقامة، في زمن لم تكون فيه هذه الحدود مرسومة، فكان المسلم يقيم حيثما شاء، فكل بلاد الإسلام هي وطنه، شأنهم شأن المماليك في مصر، والأدارسة والمرابطين في المغرب، والموريسكيين في شمال إفريقيا.

أيضا، كان هؤلاء الكراغلة يمثّلون نسبة قليلة من المجتمع الجزائري، فمعلوم أنّ عدد الكراغلة في الجزائر لم يكن كبيرا خلال الفترة العثمانية، فكان عددهم في مدينة الجزائر سنة 1621م حوالي خمسة آلاف كرغلي، ثمّ حدثت بعض الأوبئة والطواعين وتقلّصت أعداد ساكنة الجزائر، فقلّت أعدادُهم كثيرا، وفي سنة 1754م  قدّر “فانتور دي بارادي” أعدادهم وذكر أنهم حوالي عشرة آلاف نسمة، بينما زادت أعدادهم في سنة 1825م إذ ذكر القنصل الأمريكي”شارلر” أنّهم قُرابة عشرين ألف نسمة، وهي أعدادٌ قريبة جدا من العدد الذي قدّمته لنا التقارير الفرنسية عشيّة احتلالها للجزائر.

وأمّا الأمر الآخر الذي أردتُ أن أوضّحه لأولئك الجهلة، فهو أنّ الكراغلة هم أبناء شرعيون، تشكّلت طبقتهم نتيجة زواج القادة العثمانيين الأشاوس الذين قدِموا إلى الجزائر بغرض الجهاد وتحرير سواحلها وطرد الغزاة الصليبيين عنها بعد أن طلب منهم ساكنة الجزائر ذلك، وتزوّج عددٌ من هؤلاء القادة من نساء جزائريات من بنات شيوخ القبائل العربية والأمازيغية. وكان أوّل أولئك القادة العثمانيين الذين تشرّفوا بمصاهرة العائلات الجزائرية هو خير الدين باشا والذي تزوج بابنة أمير كوكو  المعروف بأحمد ابن القاضي الذي من ينحدر من أسرة الغبريني أحد أشهر قضاة بجاية، وصاحب كتاب عنوان الدّراية، ورُزق خير الدّين من ابنة القاضي بابنه حسن بن خير الديّن باشا الذي خلفه في حكم إيالة الجزائر.

والأمر نفسُه فعله حسن بن خير الديّن حين تزوّج بابنة الحسين ابن القاضي سنة 1560م، كما تزوّج قائده العلج علي  صديق حسن باشا من ابنة أخرى لابن القاضي، وكلّنا يعلم بأنّ علج علي هو الذي سيصبح  أحد أشهر بايلربايات الجزائر. وكانت مراسم الزواج تتمّ في أعلى مستوى، فنلاحظ أنّ حسن بن خير الدين قد جهّز موكبا فاخرا من الفرسان لإحضار الأميرتين من بنات حسين ابن القاضي إلى مدينة الجزائر.

إذن، فكما هو ملاحظٌ فإنّ الكراغلة كانوا طبقة رفيعة، فآباؤهم هم قادة عثمانيون، وأخوالهم هم زعماء القبائل وشيوخ الطرق وأعيان العلماء والقضاة من أبناء الأسر الرفيعة مثل أسرة آل مقران ببجاية وآل القاضي بالزواوة وابن شهرة بالتيطري، وابن قانة بالزيبان، وبعض العائلات الأندلسية الرفيعة، لذلك كان الكراغلة معروفين بنُبلهم وثرائهم، فتحدّث القنصل الأمريكي شارلر عن ألبستهم المزينة بالقصب، وبحواشي الذهب أو الفضة، وعمائمهم المرصعة، وبرانيسهم المحمولة على أكتافهم، كما ذكرت روزيت أن لباس الكراغلة لا يختلف عن لباس الأندلسيين، إلّا أنه أكثر أناقة، وملابسهم أكثر نظافة.

السبب الذي جعل المخزن يحقد على طبقة الكراغلة، أنّهم كانوا السبب المباشر لفشل حملاته المتكررة ضد الجزائر، خصوصا كراغلة تلمسان وقسنطينة الذين أحبطوا مساعي المولى إسماعيل التوسعيّة ضدّ الجزائر، على غرار ما بذلوه في سبيل صدّ حملة مولاي إسماعيل التي تزامنت مع حملة محمد باي تونس ضدّ الجزائر في الحدود الشرقية، ليتمّ تكريمهم من طرف الداي شعبان والسماح لهم مجددا بتبوأ مناصب سياسية وعسكرية رفيعة

وبهذا نلاحظ أنّنا أمام طبقة مُحترمة، بالغ القنصلُ الأمريكي والقناصل الأوربيون في الإشادة بهم، والرفع من قيمتهم، كيف لا وهو يتحدّث عن أبناء أبطالٍ أشاوس، ونساءٍ شريفات، يلبسون ثيابا لم يلبسها حتى سلاطين مملكة مراكش وفاس حينها.

وكان الكراغلة -مثلهم مثل العثمانيين في البداية- يتبوءون أعلى المناصب السياسية والعسكرية في الدّولة، وليس كما يُردّده بعضهم من أنّهم كان يتمّ منعهم من ممارسة الوظائف العسكرية والسياسية مطلقا، فحسن بن خير الدين باشا كان بايلربايًا للجزائر وهو حفيد ابن القاضي.

لكن مع بدايات القرن الـ17م تزايد نفوذ الانكشارية، فتحالف الكراغلة مع طبقة الريّاس ومن تمّ صار يُنظر إليهم على أنّهم خطرٌ يجب التخلّص منه، فتمّ إقصاؤهم بسبب تخوّف الانكشارية من تحالفهم مع أخوالهم من شيوخ القبائل، خصوصا بعد أن استعان بهم خيضر باشا حاكم الجزائر سنة 1596م لأجل إخماد عصيان الانكشارية، ومنذ ذلك الحين أطلق الانكشارية على خصومهم من أبناء الجزائريات لقبَ “الكراغلة”، بمعنى أنّكم أبناء عبيدنا من جهة الأمّ، فالانكشارية كانت نظرتهم فيها نوعٌ من التعالي على السكان المحليّين فاعتبروهم مجرّد خدم وعبيد لهم، بخلاف طبقة الريّاس الذين كان منهم خير الدين باشا وعروج فإنّهم كانوا يحترمون ساكنة الجزائر، ولبّوا نداء أعيانها، وتركوا ذريتهم في أرضها.

رفضَ الكراغلة محاولات إقصائهم، وثاروا عدّة مرات، وأوّلها كان سنة 1629 ضدّ الانكشارية غير أنّ التمرّد باء بالفشل، وتمّ طرد الكراغلة من الجزائر، وتجريدهم من المناصب السياسية والعسكرية، ومع ذلك ظلوا يتمتعون بمنزلة سامية، ويتقاضون مرتباتهم نظير أعمالهم الإدارية. وسرعان ما تمكّنوا من العودة مجددا إلى مسرح الأحداث، خصوصا في فترة الداي شعبان أواخر القرن 17م.

أمّا عن السبب الذي جعل المخزن يحقد على طبقة الكراغلة، فلأنّهم كانوا السبب المباشر لفشل حملاته المتكررة ضد الجزائر، خصوصا كراغلة تلمسان وقسنطينة الذين أحبطوا مساعي المولى إسماعيل التوسعيّة ضدّ الجزائر، على غرار ما بذلوه في سبيل صدّ حملة مولاي إسماعيل التي تزامنت مع حملة محمد باي تونس ضدّ الجزائر في الحدود الشرقية، ليتمّ تكريمهم من طرف الداي شعبان والسماح لهم مجددا بتبوأ مناصب سياسية وعسكرية رفيعة مقابل ما قدّموه في تلمسان وقسنطينة من بطولات، وبسالتهم في القتال.

إنّ بسالة الكراغلة في الدّفاع عن الجزائر، خلافا للانكشارية، ترجع لعدّة أسباب من أبرزها كونهم أكثر ارتباطا بأرض الجزائر، التي وُلدوا بها، وترعرعوا فيها، ونبت لحمهم من خيراتها، فهي الأرض التي سقاها آباؤهم بدمائهم، وذادوا عن سواحلها بأرواحهم، ولهم فيها أخوال أشاوس، وأمّهات ينحدرن من أشرف القبائل.

وفي سنوات 1695- 1698 أصدر  الداي شعبان قرارا ينصّ على معاملة الكراغلة كبقية العناصر العثمانية الأخرى، وإدماجهم في جيشه، من أجل كسب ود وتأييد الأسر الأهلية القوية، والتي كان ينتمي إليها البايات الجدد. ومنذ ذلك الحين بات تعيين البايات يعتمد على مدى علاقة هؤلاء البايات بالقبائل القوية، لأجل أن يضمن الباي دعم شيوخ القبائل في حال نشوب فتن داخلية أو حروب خارجية.

وقد عاصر القنصل الأمريكي شالر (1816-1824) العصر الذهبي للكراغلة إن صحّ التعبير حين قال: “الكراغلة لا يتمتعون بحقوق أكثر مما يتمتع به الجزائريون، فيما يتعلق بالمناصب في الدولة، لكن يمكنهم الرقي في البحرية، كما يمكنهم الوصول إلى مناصب القائد والباي”. وتمّ تعيين بعض الكراغلة كبايات على الأقاليم، وكان آخرهم الحاج أحمد باي الذي اشتهر بمقاومته للاحتلال الفرنسي.

وبهذا نكون قد تعرَّفنا على سبب هذا الحقد الدفين على طبقة الكراغلة التي وقفت جدارا منيعا تحطّمت أمام صلابته جلُّ مساعي جيش المخزن التوسعية وأطماعه في بلادنا، وشأنهم في ذلك شأن بقية مكوّنات المجتمع الجزائري والذين لم يعُد لهم أي انتماء عرقي إلا الانتماء إلى الوطن الغالي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • عيسى اللموشي

    كما افشلوا حملة فرنسا على الجزائر