-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من يصنع التاريخ النخبة ام الجماهير؟

التهامي مجوري
  • 1804
  • 0
من يصنع التاريخ  النخبة ام الجماهير؟

من يصنع الحدث السياسي، النخب أم الجماهير؟من يصنع التغيير والإصلاح، النخب أم الجماهير؟من المستفيد من عمليات السياسة والتغيير والإصلاح النخب أم الجماهير؟

هذه الأسئلة الأربعة يجترها العالم الإسلامي منذ قرون، ولم يجتمع إلى اليوم على رأي تؤمن به نخبه وجماهيره، للخروج من ورطاته المتنوعة والمتتالية والمتفاوتة المستويات.

فمن قائل أن المشكلة في نخب المجتمع التي فسدت، ولم تعد تشعر بما عليها من واجبات تجاه ما يقع في المجتمع ومؤسساته، ولو أن هذه النخب الحاكمة منها على وجه الخصوص صلحت لصلح الجميع؛ لأن هذه النخب هي التي تملك أسباب الإصلاح والإفساد؛ لأنها تمثل القيادة، من سياسيين وعلماء وخبراء وإعلاميين ورجال أعمال..، وكما قال الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه “يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، فرغم أن القرآن كلام الله وله سلطان على نفوس الناس، إلا أن سلطة الحاكم أقوى وأشد وقعا على الناس، بحكم سلطة التنفيذ، بينما يرى آخرون أن المشكلة في الجماهير التي تحمل في نفسها القابلية للاستبداد والفساد، وفي أحسن الأحوال لا تملك استعدادا للتغيير وتحمل تبعاته؛ بل تحمل في نفسها الخوف من المستقبل أكثر مما تحمل في نفسها الأمل في الأفضل والأحسن، وربما كان هناك رأي آخر وهو أنهما معا –النخبة والجماهير- استقر فيهما أن التغيير إلى الأفضل غير ممكن؛ لأن القرار بيد الغرب الاستعماري، والاستعمار لا يسمح بحراك خارج مصالحه، التي تتعارض حتما مع الإرادة الشعبية للمجتمعات المستضعفة.

لا شك أن في كل هذه التوجهات جزء من الحقيقة، فلو تتبعنا حركة التاريخ، لوجدنا شيئا من هذا وشيئا من هذا وشيئا من ذاك، بنسب متفاوتة وفوارق طبيعية تمليها ضرورات الزمان والمكان والحال. فلو نظرنا في أحداث تونس سنة 2011، التي اضطرت الرئيس بن علي إلى الهروب من شعبه الذي حكمه طيلة ثلاثة عقود بالحديد والنار، فإننا نلاحظ أن الجماهير هي التي أضرمت النار، بعدما قضى نظام بن علي وبورقيبة من قبله، على النخبة التونسية، بالترهيب والترغيب..، وبعدما قضى على مجرد التفكير لدى الشعبي البسيط خارج العلبة التي أغلقها نظام بن علي، فمن البوعزيزي المواطن البسيط بدأت الانتفاضة، ثم دخلت النخبة على الخط، لتأطير الانتفاضة وحمايتها من الاستغلال خارج الإرادة الشعبية، بينما في الثورة الجزائرية سنة 1954 والثورة الإيرانية بعد ذلك في سنة 1979، فقد كانت المبادرة من النخبة، حيث أعلنت مجموعة من المناضلين والقيادات من العلماء والسياسيين الثورة وألقت بها في الشارع فالتقطتها الجماهية وحققت غايتها، أي أن ما قام به البوعزيزي في تونس، قامت به النخبة في الجزائر وفي إيران، فمجموعة الـ22 في الجزائر لم يكونوا إلا أفرادا من اللجنة الثورية للوحدة والعمل، المتفرعة عن المنظمة الخاصة التي ليست إلا الجناح العسكري لحزب الشعب، وكذلك المراجع الدينية في إيران والقيادات السياسية، لم تكن غير أفراد من أحزاب متنوعة اجتمعت على فكرة وهي إسقاط نظام الشاه، ثم تبنت الجماهير ذلك الفعل، واستمرت إلى تحقيق المطلوب.. وإلى جانب هذه التجارب الناجحة، هناك تجارب أخرى مماثلة في وسائلها ولكنها لم تحقق ما حققته تونس والجزائر وإيران، والسبب في ذلك في تقديري هو عنصر الزمان والمكان والحال، فما حققته إيران وتونس مثلا، لم تحققه اليمن ومصر وسوريا، وما حققته الجزائر بثورتها لم تحققه فلسطين.

وإلى جانب هذه التجارب، توجد تجربة أخرى هامة وهي تجربة جنوب إفريقيا، في الانتصار على العنصرية بالنضال والصبر على المظالم. فموندلا لم يحمل السلاح، والمواطن الأسود في جنوب إفريقيا لم يحرق نفسه احتجاجا على العنصرية ولم يكن لهم “آيات الله” يطيعونهم، ومع ذلك انتصروا بفضل النضال المستمر والمستميت والصابر على المظالم، والاقتداء بزعيمهم المسجون لمدة 27 سنة..   

اعجبتني فكرة للأستاذ عبد الوهاب جاكون مدير يومية الجمهورية الجديدة الناطقة باللغة الفرنسية “لانوفال روبيبليك”، قالها في برنامج حواري بقناة “دزاير تي في” حيث قال “لا يوجد عمل السياسي  بغير اهتمام شعبي”، ذلك أن الجماهير مسيسة بطبيعتها؛ لأن السياسة في النهاية هي الاهتمام بالشأن العام، والاهتمام بالشأن العام ليس إلا بحثا عن العدل الاجتماعي والحرية وضمان لقمة العيش والتطلع لقيادات كفأة وناضجة، ثم إن الجماهير تمثل الطرف في كل عملية سياسية، فإذا كانت مهام النخبة البحث عن الحلول وعرض برامجها والترشح للمناصب السياسية العليا لتطبيق هذه البرامج، فإن الجماهير تمثل القبول والرفض لهذه النخب..، فإذا كانت الجماهير رافضة لواقع ما لا يمكن ان ينجح ذلك الواقع، وسواء في ذلك كان الرفض معارضة أو مقاطعة وتجاهل… فعندما تكون المشاركة في فعل سياسي 20 بالمائة مثلا فإن المشروع المعروض فاشل حتما.

والاهتمام الشعبي الذي أشار إليه الأستاذ جاكون في كلمته المشار إليها، المقصود به التفاعل، إذا لم يكن هناك تفاعل شعبي مع الواقع السياسي، لا معنى للعمل السياسي بل لا وجود له؛ لأن الاهتمام الجماهيري حاصل، ولكنه يظهر في شكل تجاهل للحياة السياسية عندما تشعر الجماهير أنها غير معنية بما يفعل السياسيون، لا سيما عندما يغيب السياسي عن مسرح الحياة ولا يحضر إلا مع المواعيد الانتخابية، حينئذ يزداد الجمهور زهدا في الحياة السياسية، ويضعف اهتمامه، احتجاجا على الممارسة السياسية وليس تجاهلا للحياة السياسية وما تتطلبه.

إن الشعوب متساوية في العبقرية، فلا يوجد شعب ذكي وآخر غبي، وإنما كل الشعوب ذكية، ويهمها شأنها العام ومستعدة للتضحية في سبيل تحسينه، ولكن هذه الشعوب تشبه المحرك المفكك قطع غيار موزعة تنتظر المهندس الذي يركبه ليشتغل، وعندما تشعر أن المهندس المطلوب غير موجود وأن نخبها تتجاهلها…، فإنها تبدو وكأنها غير مكترثة، فتتجاهل الكل وتتمرد على الجميع، فتبدو وكأنها شعوب لا تهتم بالسياسة وتزهد في النضال وتبعاته. 

في ضوء هذه الإشكالات القائمة، والتي لا تزال محل جدال وبحث في العلوم الإنسانية عموما وفي العلوم السياسية خصوصا، يبقى السؤال مطروحا دائما وهو من يصنع التاريخ؟ ومن يصنع التغيير؟ فيحدث النقلة التي تتمناها النخب والجماهير معا.

وفي تقديري أن الذي يصنع التاريخ هم ثلاث فئات:

الخبراء في جميع التخصصات، والتقنيون المتحكمون أيضا في جميع التخصصات، وفئة من باقي المجتمع من المناضلين. أما الخبراء فلأنهم هم المنظرون للمشاريع المُحَيَّنة، فكل دولة او حركة سياسية تعمل على التغيير والإصلاح لا تملك القدر الكافي من الخبراء، لا يمكن ان تقوم بفعل له قيمة اجتماعية او سياسية، وأما التقنيون فهم الفئة القادرة على التحكم في حركة تنفيذ ما ينجزه من الخبراء من أفكار وبرامج، وهاتين الفئتين هما اللتان تمثلان النخبة في المجتمع؛ لأنهما المؤطران لحركة المجتمع في جانبيها التنظيري والإنجاز، وهؤلاء عندما ننتقل إلى مستويات النضال فهم ثلاثة أقسام، قسم مهتم بالشأن العام ويناضل من أجل تحسينه، ومستعد للتضحية في سبيل ذلك، وقسم مهتم بالشأن العام ويناضل من أجل تحسينه، ولكنه غير مستعد للتضحية في سبيل ذلك، وقسم يقوم بعمله كوظيفة مقابل أجر وكفى.

اما باقي فئات الشعب فيوجد فيها مناضلون يهتمون بالشأن العام بالرغم من أنهم ليسوا من الخبراء ولا من التقنيين، وإنما يمثلون السند النضالي للمشروع الإصلاحي الحزبي او الحكومي، وهؤلاء أيضا فيهم المهتمون بالشأن العام ومستعدون للتضحية في سبيل ما يؤمنون به، وفيهم المهتمون بالشأن العام وغير مستعدين للتضحية في سبيل ما يؤمنون به، اما باقي الجمهور فتبع لا يهتمون كثيرا بالحرص على التحسين والتطويل، مع الشعور بالحاجة إليه، أماني وطموحات قاعدين… ولكنهم ليسوا بالضرورة انتهازيين كما يتوهم الكثير من اليائسين. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • ناصر المهدي

    التاريخ منذ 1979 يصنعه الامام المهدي و نحن عن ذلك غافلون.

  • hocheimalhachemi

    عند ما تقوم النخبة بكل فيئاتهم وكل في مجاله بواجباتها وما يتطلب منها وبنية حسنة وصادقة وبلا أنانية، فسوف ترى العامة متبعة آليا ،ولانجامل من يفسد ولا يصلح وأن نكون مع الحق وان كان مرا وأن نقول للمحسن أحسنت وللمسيء أخطأت
    " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
    وكما تكونوا يولى عليكم .

  • لحسن

    3
    الأستاذ الفاضل، من النخب أو من غيرها، والعبرة ليست بأن يكون " الحاكم " من "النخب"، أو أن يحُلُّوا محلَّه (ليتناقشوا في" تفاصيلهم" و"الأمة" تحترق) و انما العبرة بعلاقته معهم، ومع "علمهم"، فإن كانت إيجابية كان الأثر إيجابيا على السير نحو "الغاية" ، وإن كان يضرب بأفكارهم وبآرائهم عرض الحائط، و يحكِّم أهواءه التسلطية، من غير غايةٍ جامعةٍ تذكر، كان الفشل حتى في الحاضر، فما البال بالمستقبل !

  • لحسن

    2
    وهذا "الحاكم" ليس بالضرورة أن يكون واحدا من هذه الفئات من العلماء و الخبراء وتقنيي التحكم و إنما قد يكون إنسانا آخر، أو كيانا آخر، و لكنه متميز عن الجميع بكونه " عمليا " وبكونه قادرا على " المزج" بينهم، وعلى التأليف بين أفكارهم، لتغيير التاريخ، أي لصنع المستقبل، أي لتحقيق " الغاية" التي يكون قد سوَّق لها بينهم بالصدق و ليس ببيع الأحلام الزائفة، و أقنع بها أغلبية الفئات التي ذكر... يتبع

  • لحسن

    1
    تحية للأستاذ الفاضل و للقراء،

    صناع التاريخ من بينهم الفئات التي ذكرها الأستاذ الفاضل، ولكن هؤلاء أشتات في أفكارهم، وفي توجهاتهم، وفي تصورهم للتاريخ، بمعنى"المستقبل" الذي يتوقون إليه فرادى أو جماعات.

    وهم في حاجة إلى من يؤطر جهدهم، ويصرفه إلى " الغاية " التي تنشدها أمة من الأمم.

    و "الغاية" يرسمها ويحدد معالمها الحاكم، نظامَ حكمٍ مَّا، أو سلطانا كان أو ملكا أو رئيسا أو أميرا، أو فلنُسَمِّه كما شئنا... يتبع

  • الطيب

    في الأخير الفكرة ملخصها أنّ الذي يصنع التاريخ هو تفاعل بين هذا و ذاك .لو أنك يا أستاذ سافرت ببساطك إلى حيث عاش أعظم مصلح عرفته الأرض و عرفه التاريخ البشري و اقتبست منه و من سيرته جوابًا على تساؤلاتك. لقد صنع النخبة محمد العربي عليه الصلاة و السلام على عينه فكانت على قلب رجل واحد ثم حانت ساعة الجهر و ضرورة اشراك الجماهير فتغير التاريخ . نفس الأمر تكرر مع ثورة آبائنا المجيدة في العصر الحديث حيث تكونت النخبة ثم جاء محمد العربي بن مهيدي ليقول لرفاقه القوا بها للشعب ليحتضنها و تغير التاريخ كذلك .