-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ما بعد الرّيسوني… متى نصنع “القوة الناعمة”؟

ما بعد الرّيسوني… متى نصنع “القوة الناعمة”؟

لقد نجحت الجزائر، من خلال علمائها ونخبها وفواعلها الجمعوية وإعلامها الوطني، والمؤكد عبر أدوار أخرى في مستويات عليا، في إسقاط المغربي أحمد الريسوني من رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وإن تدثّر بلبوس الاستقالة الطوعيّة، فهي لم تكن لتحدث لولا الضغوط الجزائرية.

لكن المهمّ الآن هو أن نسائل أنفسنا: ماذا بعد واقعة الرّيسوني؟ لأنّ الرؤية الاستراتيجية تبنى على الأفعال وليس مجرد ردود الأفعال، وبهذا الصدد، دعُونا نتفق على أنّ عدوان الريسوني على السيادة الوطنية، ما كان ليثير ما أثاره من استنفار عام في الجزائر، وصدى مدويّا في الخارج، لولا موقعه في هيئة دوليّة تمثل اليوم أكبر تجمع علمائي من كل أصقاع العالم بكل مذاهبه وأطيافه الإسلاميّة، بينما هو في الأصل لم يأت بجديد في مزاعمه المتهافتة، فقد سبقه بها ساسة ومثقفون وعلماء دين وحتى رسميّين مغاربة، لكن كلامهم ما جاوز القطر المخزني.

هذا المعطى الأساسي هو ما ينبغي أن يفتح أعيننا وعقولنا وخططنا على خطورة مثل تلك المواقع والمؤسسات “الفوْق-قُطريّة” في التأثير السياسي وصناعة الرأي العام والدفاع عن المصالح الوطنية، لأنّ بعض قاصري النظر، من الذين يعيشون خارج التاريخ والجغرافيا حتى مع نِسْبتهم إلى النخبة، زعموا أنّ “اتحاد العلماء” لم يكن شيئا مذكورا قبل أزمة الريسوني مع الجزائر، فكان المستفيد الأول من الدعاية المجانيّة لاسمه!

ما لم ينتبه إليه الكثيرون هو أنّ قوة الدولة لم تعد مرتبطة فقط بالموارد الكلاسيكية، مثل الثروات والاقتصاد والمساحة الجغرافية وعدد سكانها والجيوش والسلاح، فهي وإن ظلت فاعلة، غير أنها لم تعد كافية وحدها، حيث برز إلى جانبها ما بات يعرف بـ”القوة الناعمة”، رديفا لمفهوم “القوة الصلبة” التي تطرحها نظريات المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، وبالتزاوج بينهما ظهرت فكرة “القوة الذكية”.

وتشير نظرية “القوة الناعمة” التي نحتها جوزيف ناي، السياسي الأميركي الشهير، إلى “توظيف ما يمكن توظيفه من الموارد والأدوات السياسية، بغرض السيطرة على سلوك القوى المستهدفة واهتماماتها، عبر مجموعة من الأدوات الثقافية والأيديولوجية والإعلامية والاقتصادية، بل ويمتد الأمر إلى العمل الخيري والإغاثي للتأثير على سياسة دولة بعينها”.

بمعنى أوضح، أنّ تلك القوة معنوية بأدوات ناعمة، تقوم على “مفهوم الإقناع والترغيب وترويج سياسات بعينها، بدون اللجوء للقهر، على نقيض النظرية الواقعية للمدرسة الكلاسيكية في القوة الصلبة للدولة القومية أو الإمبريالية”.

وقد حدد مبتكر النظرية أدواتها في ثلاثية “الثقافة والقيم السياسية والسياسة الخارجية”، بينما أضاف غيره النموذج الاقتصادي والمؤسسات الدولية (الاندماج الدولي)، وكل ذلك لأجل “التأثير في الجماهير الأجنبية وصناع الرأي والقادة والنخب المؤثرة باستغلال فرص تتيحها عدة قطاعات، من بينها الفنون والتعليم والإعلام والأفكار والتاريخ والعلوم والدين… الخ”.

ونحن هنا لا نبتكر مصطلحات أو مفاهيم، بل ننقل ما هو مقرر في المراجع المختصة لنقيّم في ضوئه وضعنا الدبلوماسي الرسمي والشعبي ونصوّب تفكيرنا الخاطئ تجاه الواقع الخارجي.

إنّ ما يزخر به عالمنا اليوم من تنظيمات إقليمية ودوليّة، ومؤسسات تعاون دولي في هيئة وكالات تنمية، ومؤتمرات وندوات عالمية ومسابقات دولية في كل المجالات ومنح دراسية للطلاب الأجانب، وهيئات خيرية دولية وتمويلات لصالحها كليا أو جزئيا، وفضائيات تلفزيّة دوليّة ومعونات للشعوب وسواها كثير، ليست أبدا أفعال خير متجردة من الحسابات البراغماتيّة، بل أدوات لممارسة القوة الناعمة من دول تتنافس على مراكز القوى والتأثير في محيطها، خدمة لمصالحها القوميّة بشعارات أخلاقية وإنسانيّة.

إذا شئنا توضيح الأمور أكثر، فيمكن الإشارة إلى ثلاثة نماذج رئيسة في الإقليم العربي الإسلامي، تقدمت بإمكاناتها ومؤسساتها في تنفيذ أجندات القوة الناعمة، بغض النظر عن التفاوت في فعاليتها أو نجاحها، وهي السعودية وإيران وتركيا، وفق فرصها الخاصة وتحدياتها الخارجية، طبعا من دون الحديث عن باقي الدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي غزت الدنيا بشبكة هوليود.

إذا تكلمنا عن موقع بلادنا، فإن الصراحة تفرض الاعتراف بأنّنا لا نزال متأخرين عن استغلال فرص القوة الناعمة المتاحة لنا، رغم بروز الدور الجزائري أفريقيًّا وعربيّا، ولاسيما في منطقة الساحل مثلا، ناهيك عن رصيدها التاريخي ومقوماتها الاستثنائية في صناعة ريادة فعلية.

 ولذلك، يحسب للرئيس عبد المجيد تبون تفطنه للمسألة الخطيرة، وإسراعه إلى إطلاق قناة جزائرية دولية إخبارية، وقبلها تأسيس وكالة للتعاون الإفريقي والتنمية، في وقت ظلّ حضور “رابطة علماء الساحل” دون التطلّع المنشود، فضلا عن تضييع العلاقة بآلاف الطلبة الأفارقة الذين تخرّجوا من الجامعات الجزائرية منذ السنوات الأولى للاستقلال، ومع ذلك لا تزال أمامنا رهانات وإجراءات ومبادرات كثيرة مطلوبة عاجلا للاستثمار في قدراتنا الكامنة.

إنّ فكرة القوة الناعمة ترتبط أساسًا بوجود دولة لها مشروع وطني قومي، يرتكز على رؤية وبرنامج عمل، وطموح إقليمي قوي في لعب أدوار تناسب مكانتها التاريخية والحضارية وإمكاناتها السياسية والاقتصادية، بشكل يتيح لها استغلال كل الفرص والمساحات لتعزيز قوتها الداخلية والخارجية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!