-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ما أوسع ساحة الشهداء وما أضيق زقاق الاستقلال

عمر أزراج
  • 1271
  • 0
ما أوسع ساحة الشهداء وما أضيق زقاق الاستقلال

في موقعي بلندن، عشت تفاصيل النقاش الدائر بدون انقطاع في وسائل الاعلام وفي المراكز الفكرية وعلى مستوى فرق التفكير في المؤسسات الاستراتيجية، وذلك في أوج المرحلة التالية مباشرة على الحرب الباردة التي كان يديرها في السابق كل من القطب الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي، والقطب الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

أذكر أنه في هذه المرحلة الحاسمة برز إلى السطح أفقٌ جديد لصراع آخر قادم يلبس قفازات حريرية ويتمثل في لفت الأنظار إلى الأهمية الأساسية والاستراتيجية التي تكتسيها جبهة معركة الثقافة، والقيم السياسية، والسياسة الخارجية، ودورها الحاسم في التعريف بالأوطان والشعوب، وفي كسب رهان الهيمنة الحضارية.

 وفي إطار بلورة الأفكار ذات الصلة بهذا البُعد المهم جدا في هذه الفترة بالذات، صدرت في أمريكا ثلاثة كتب استقطبت القراء البسطاء والسياسيين وأهل الفكر في آن واحد، وتُرجمت إلى معظم اللغات الحية ودار حولها نقاشٌ ساخن ولا يزال يتواصل إلى يومنا هذا.

الكتاب الأول هو بعنوانالقوة الناعمةللمفكر الاستراتيجي جوزيف ناي، والثاني هو للياباني الأصل والأمريكي الجنسية فرنسيس فوكوياما بعنواننهاية التاريخ والإنسان الأخير، أما الكتاب الثالث فهوصدام الحضاراتلصموئيل هنتنغتون، إن هذه الكتب الثلاثة على اختلاف بعض أطروحاتها والمناهج التي تستخدمها، فإنها تتفق على عامل أساسي واحد وهو الدور الاستراتيجي للثقافة على المستوى الكوني، باعتبارها الجذر الأصلي للقيم السياسية في الداخل، أي على المستوى الذاتي، وللسياسات الدولية في المسرح العالمي برمته، كما تجمع هذه المؤلفات الثلاثة والكتب والدراسات الغربية التي تناولتها بالتحليل والنقد على ضرورة منح الأسبقية للقوة الناعمة، وخاصة حين إقامة الصلات والعلاقات والحوار مع مختلف الشعوب، على استخدام القوة الغليظة في إدارة الأزمات، والصراعات.

 أذكر أن وسائل الإعلام العربية المختلفة التي كانت تنشط في ذلك الوقت في المَهاجر الغربية لم تشارك في هذا السجال بأي مساهمة لها قيمة فكرية أو سياسية على الإطلاق، وربما لسبب أساسي وهو أنها قد أنشئت من طرف بعض الأنظمة العربية التي كانت تستهدف في الأساس بعض الأنظمة العربية الأخرى التي تعاديها، أو أنها أسست من طرف المعارضات العربية المقيمة في المنافي، وكان انشغالها الدائم هو توظيف هذه الوسائل الإعلامية من أجل تمرير خطاباتها، والإعلان عن برامجها المناهضة للأنظمة التي كانت تحاول أن تطيح بها.

هناك استثناءٌ واحد مهمّ فعلا، وهو المفكر العربي الذي اهتم بقضيةالقوة الناعمةفي تلك الفترة، وهو محمد حسنين هيكل الذي خصص حلقتين، في إطار برنامجه الشهير الذي كانت تبثه فضائيةالجزيرة، لشرح أفكار جوزيف ناي وتطبيقها على الواقع المصري أولاً والواقع العربي ثانياً.

 في تلك الفترة، أذكر جيدا أنني كلما قدمت نفسي كجزائري لشاب يافع، أو لشخص في بداية كهولته من أستراليا، أو أمريكا، أو الدنمارك، أو كندا، أو نيوزيلندا، أو لإنجليزي يعيش في الريف، أو لغيرهم في العمق الأمريكي اللاتينيفإذا به، أو بها، يطلب مني أن أحدد له الموقع الجغرافي لبلدي، أو أن أسمي له القارة التي توجد فيها الجزائر حتى يفك طلاسم مكانها في الخريطة الجغرافية.

 لقد أصابني وباء هذه الظاهرة مرارا وتكرارا، وفي كل مرة يحدث لي مثل هذا الضرب من جهل بشر المعمورة لبلدنا، أصاب بالخيبة والمرارة وأضرب الأخماس بالأسداس وأعود إلى شقتي مقوّس القلب ومشقوق الوجدان، أه، لقد طمس غيم النسيان صورة الجزائر، وأخمد صوتها الذي كانت تلهج به ألسنة الأجيال الأجنبية في العالم أجمع على مدى أيام حركة التحرر الوطني الجزائري التي مسحتها حقبة الاستقلال مسحا كاملا.

 في تلك اللحظات الرمادية كنت أحس بالوجع ورحت أردد مقطعا من قصيدة للشاعر أحمد حمدي جاء فيه ما معناه:”ما أوسع ساحة الشهداء، آه ما أضيق زقاق الاستقلال“.

لكي أستوعب السجال الذي كان دائرا حول رهانات واستراتيجيات  “القوة الناعمةاشتريت الكتب المذكورة آنفا ورحت أدرسها نقطة بعد نقطة واستوقفني كتاب جوزيف ناي طويلا ورحت أقرأ فيه:”إن القوة الناعمة هي القدرة على أن تحصل على ما تريده من خلال الاستمالة والجذب بدلا من الاكراه أو دفع الأموال، إن القوة الناعمة تنبع من جاذبية ثقافة البلد، ومن مثُلها السياسية وسياساتها المطبقة، عندما ترى عيون الآخرين سياساتِنا بأنها شرعية فإن قوتنا الناعمة تصبح أقوى، كماأن الإغراء هو أكثر تأثيرا دائما من الإكراه، وأنّ قيماً مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والفرص المتاحة للأفراد هي المغرية على نحو عميق“. 

إن هذه المحاور الكبرى التي تتشكل منها القوة الناعمة تحتاج بلا شك إلى وسائل عصرية وحديثة وذكية لتوصيلها إلى شعوب العالم لتصبح بمثابة  الجسر الذي يصلها بنا، ولكن الجزائر لا تملك أيا منها، فهي تؤسس المراكز الثقافية الكبرى في فضاءات الدول المحورية على الأقل في هذا العالم ماعدا كمشة مجهرية منها، وهي تسند دائما إلى أشخاص عاطلين ومقعدين والحصيلة صفر على الشمال، كما أن الدولة الجزائرية لم  تنشر  في هذه الفضاءات العالميةالتي تطبخ فيها السياسات الدولية وتعرف فيها الثقافات المتقدمةالمنابر الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية باللغات الحية الأكثر تداولا وتأثيرا، والمتطورة مهنيا في مضامينها وطرائق تقديمها وفقا للمعايير العصرية العالمية المتطورة التي تمكّنها من النفاذ إلى قلوب وعقول شعوب المعمورة، مثلا، إن الآداب الجزائرية ذات المستوى الرفيع، والتي تعتبر من بين أرقى عناصر القوة الناعمة التي تملكها الجزائر لم تُقدّم إلى شعوب العالم بواسطة الترجمة الإبداعية المستمرة إلى لغاتها الحية، ولا توجد هناك سياسات توزيع ودعاية إيجابية وترويج لها في الأسواق العالمية. أما فنوننا المختلفة، وكذا معالمنا  الحضارية عبر التاريخ لا تزال مطموسة ومغلقاً عليها، ولم تتعرف عليها الأجيال في العالم.

 

في إحدى المرات تكوّنت في لندن مجموعة عمل من عدد من الاعلاميين الجزائريين والكتاب العاملين هناك في الصحف والاذاعات والفضائيات التلفزيونية، وتوجهنا إلى السفير الجزائري ببريطانيا حينذاك السيد عبد الكريم غريب وحدثه أعضاؤها عن أهمية وضرورة دعم إنشاء جمعية ثقافية جزائرية في هذا البلد، لتكون فضاء ثقافيا وفنيا واجتماعيا جامعا لأفراد الجالية الجزائرية، ووسيلة للتعريف بالثقافة الجزائرية بين أوساط الجاليات المختلفة، وفي أوساط الشعب البريطاني معا، في البداية أبدى نوعا من الحماس، ولكن عندما تأكد من أن المجموعة كانت جادة حقا انسحب نهائيا، وبذلك انطفأ مشروع محاولة تأسيس فضاء جزائري في المهجر الإنجليزي  للتعريف ببعض القوة الناعمة لوطننا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • مواطن

    الهدف الذي ترمي إليه نبيل ويستحق المؤازرة لكنك تعيش في بلد سكانه ذوو رصانة وهدوء ويسلكون في تفاعلهم مبدأ الديمقراطية والاعتماد على المجهود الشخصي وقد بلغوا من الرقي الحضاري والثقافي أوج المراتب مثل الشعوب التي ذكرت عنها بعض كتب مفكريها.أما شعبك الذي هجر عنه من سعفهم الحظ لنيل قسط من نور المعرفة،يعود بخطى مبرمجة نحو الجمود الفكري والتخلف العلمي بل قد اقترب من ظاهرة العصر الحجري المبني على الأنانية المقرونة بالهمجية.أرجو منك الاطلاع على مؤسستنا التعليمية ورجالاتها.أين نحن من تلاواتك وأفكارك القيمة

  • الورثلاني

    نعم يا استاذ القوة الناعمة هي ما نستميل به قلوب الاخرين و نجعلهم يحبوننا و يستحسنون افعالنا و كل ما له صلة بنا فيتذوقون باذواقنا و يفكرون بافكارنا.
    اين نحن من هذا الحلم البعيد يا استاذنا? نحن امة متخلفة, جاهلة, مجهولة. نحن امة ككل الامم المنحطة المتخلفة, امة عاجزة على انتاج حتى خبزها و يتكاثر ابناؤها و يقضون حياتهم كاملة اشقياء يجرون وراء الماكل و المشرب و المسكن يعيدين كل البعد عما يكسب وطنهم عوامل القوة و التحضر بل يحلمون بالهجرة طمعا في سعادة الاخرين.
    تحياتي و حترامي للشاعر المفكر

  • الورثلاني

    القوة الناعمة ان نحافظ على بيئتنا و غاباتنا و بحيراتنا و مجاري مياهنا و مناظر بلادنا الخلابة و ثروتنا الحيوانية و نثمن كل ذلك بغرس الاشجار و تشييد حدائق عمومية و سدود و بحيرات اصطناعية و جسور معلقة و ابنية جميلة و نتحاشى تلويث ما حبانا به الخالق بالخرسانة و الابنية البشعة و المزابل الفوضوية و رمي الزيوت و النفايات الصناعية في الوديان. القوة الناعمة ان يعيش الجزائريون سعداء في جزائر متحضرة, منظمة, جميلة, نظيفة, بديعة العمارة, كثيرة الحدائق العمومية غزيرة الانتاج الثقافي, جزائر يحلم بها الاجانب.

  • الورثلاني

    القوة الناعمة ان تكون الجزائر دولة متحضرة فتنال اعجاب الاخرين. القوة الناعمة ان نبهر العالم باكتشافاتنا العلمية و ابتكاراتنا التكنلوجية. القوة الناعمة ان نغزو اسواق العالم بمنتوجات ذائعة الصيت بجودتها. القوة الناعمة ان نسحر عقول الشعوب الاخرى بابداعاتنا الموسيقية, بروعة افلامنا السينمائية و نصوصنا المسرحية و رواياتنا و اشعارنا و رسوماتانا و لوحاتنا الزيتية و منحوتاتنا و فرقنا الراقصة. القوة الناعمة ان نجعل اجناس المعمورة يحلمونا برؤية تحفنا المعمارية و الاقامةفي مدننا التي شيدها معماريونا...

  • بدون اسم

    الجزائر البيضاء .. الخضراء.. الخالدة صار الأجانب لا يعرفون موقعها الجغرافي
    على الخارطة !!
    الجزائر أرض الأحرار والحرائر .. صارت مسكينة .. مسكنوها وغبنوها من
    يأكلون الغلة ويسبون الملة وكذلك : اللي على جال كروشهم يخليو عروشهم
    !! لا أصدق .. لا أصدق .. لاأصدق ..أنه صار ينطبق علينا المثل الجزائري
    القائل : ( و ين يبان زعيكة في سوق البو يرة ) !!

  • بلقاسم

    كلما تصفحت مقالا من مقالاتكم ...أحسست بالراحة والهدوء والآطمئنان...بارك الله فيكم وأنار لكم الطريق لتحقيق ما تصبون إليه وتنشدونه شكرا لكم وتتحية حارة لكل عناصر أسرة الشروق...

  • sami ramadane

    مقالك جيد ،كمؤشر تنبيه حتى لا ننسى باننا جزء من هذا العالم.
    اما الثقافة فهي دوما نزيلة موطن الحرية ،والذين تكلمت عنهم ارادوا للثقافة ان تموت خنقا عند من لا يملك حرية قراره، فكانت النتيجة التي
    اعلمت.النوايا الحسنة وحدها بعيدة عن معاناة النضال لتحقيق المراد ضرب من الخيال؟

  • ابراهيم سعدي

    مقال في الصميم.

  • جزائري

    تحية طيبة وأطال الله في عمرك أن شاء الله.
    انها المرارة والأسى والحزن حين تجد المسؤل في الداخل والمسؤل في الخارج لهم نفس الأستراتجبة على التعتيم وعلى تقديم اسوء صورة عن الجزائر.....عندما قرأت مقالك تدكرت سفيرنا ببرلين وفرنسا والسعودية واثيوبياووووووووو
    في حقبة ما من يحضى بالسفارة في الخارج منأجل أولا المال ثانيا أن يكون أميا تعرف لمادا حتى لايعرف ما يقول ويبقى في برجه يجمع المال ولا يقاق من هم في الداخل.....انها الماسي يا أخي؟