-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التعليم الرقمي.. هل ينقذ المدرسة؟

التعليم الرقمي.. هل ينقذ المدرسة؟

تدشين الموسم الدراسي الجديد على وقع التعليم الرقمي لأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلّة، يشكل بلا ريب قفزة نوعية على مستوى الوسائل البيداغوجية في تطوير المنظومة التربوية ببلادنا، في انتظار التعميم السريع للتجربة الواعدة التي انطلقت بـ1600 مدرسة نموذجية.

يترافق ذلك مع دخول قرار رئيس الجمهورية بإدراج اللغة الإنجليزية في الطور الابتدائي حيز التنفيذ في ظرف قياسي، يعكس الإرادة السياسيّة القويّة في تجسيد الانتقال اللغوي تكيّفًا مع التحولات العالمية.

هل يعني ذلك أن المدرسة الجزائرية تعافت فجأة من كل أمراضها ونقائصها بمجرد استعمال 75 ألف تلميذ جزائري في مرحلة أولى (من مجموع 11 مليون متمدرس) للّوحات الالكترونية وإنزال الانجليزية إلى الابتدائي، مع الاعتراف بشجاعة القرار السياسي وحساسيّته البالغة؟ الجواب قطعا لا.

لكنها مؤشراتٌ واضحة على الاهتمام الميداني بالمنظومة التعليمية والتي احتلت حيزا واسعا في الفترة الأخيرة من اجتماعات مجلس الوزراء وخطابات الرئيس عبد المجيد تبون شخصيّا، وهو ما يجعلنا نتفاءل بإمكانية التقدُّم على طريق الإصلاح التعليمي، في حال ما توفرت باقي شروطه الموضوعية والشموليّة.

إذا تجاوزنا مكسب إدراج الإنجليزية بالمرحلة الابتدائية، فإنه ينبغي التنبيه إلى ضرورة التفكير مستقبلا في قضية الازدحام اللغوي وتأثيراته على الطفل، ما يفرض على الأقلّ مراجعة الإبقاء على اللغة الفرنسية بمراحل التعليم الأولى، بعد ما اتفقنا على أنها لم تعُد صالحة (ولم تكن يوما كذلك) لاحتلال موقع اللغة الأجنبية الأولى لدى أجيال الجزائر الناشئة.

أما إذا رجعنا إلى قضية التعليم الرقمي، فهي على أهميتها التربوية والتأكيد مجددا على تثمينها، وجب ربطها بالإشكالية الأصلية لتخفيف المحفظة التي انطلقت منها الفكرة في توفير بدائل الكترونية، لأنّ التعاطي معها فقط من زاوية الشكل سيكون شبيها بمن يعالج الأعراض المرضية في ظل تجاهل الأسباب الحقيقية للداء.

ونعني هنا أنّ تحرير عقل التلميذ من الحشو المعلوماتي الزائد مقدّم على حماية ظهره الضعيف من ثقل المحفظة، لأنّ الأخير ليس سوى دليل قطعي على كثافة البرامج والمقررات التعلميّة التي أرهقت التلاميذ والمكوِّنين والأولياء على السواء، وانتقدها هؤلاء مرارا، مثلما عارضها الكثير من المختصين، إلا خبراء الوزارة وحدهم من تمسّك بها.

تخفيف المحفظة باستعمال اللوحات الإلكترونية وتوفير نسخة ثانية من الكتب في الأقسام لن يكون ذا قيمة معرفيّة وتعليمية إذا لم ترافقه عاجلا مراجعة المقررات، بتقليص محتواها وفق الحاجيات الضروريّة في سن التعليم الابتدائي، خاصة السنوات الأولى التي تركز حصريّا على مكتسبات القراءة والكتابة والحساب، بينما يُجبرون في الجزائر على تعلّم كل شيء فلا يكسبون شيئا.

ونأمل مرة أخرى أن يبادر رئيس الجمهورية، ضمن رؤيته الإصلاحية للقطاع، للأمر بمراجعة كل برامج “الجيل الثاني” التي تمّ اعتمادها بصفة انفراديّة من الوزارة، خارج إرادة قوى المجتمع، وفي ظروف سياسيّة مشبوهة، وهو ما يقودنا إلى التذكير بمشروعية مطلب المختصين في تأسيس “مجلس أعلى للتربية”، يتكفل بالنظر في جوهر المنظومة وأهدافها وعلاقتها بالأمة والإستراتيجية الوطنية للدولة، بعيدا عن الخيارات الارتجالية أو الفئوية الأيديولوجية للأشخاص أو التيارات المتعاقبة على المسؤولية التنفيذية.

وفي غضون ذلك، يبقى المربّي هو ركيزة التعليم، ولا أمل في تقدُّمه إذا لم تتحسّن ظروفه على كافة المستويات، وأولها حيازة تكوين قاعدي قويّ، معرفيّا وبيداغوجيّا، ثم ترقية أوضاعه الاجتماعية، لكن إذا عدنا إلى واقع الجزائر، فإن الأمر لا يدعو للتفاؤل حاليّا، في ظل هيمنة خريجي الجامعات غير المتخصصين في وظيفة التعليم أصلا على مهمة التدريس، أما عن الوضعية المهنيّة والاجتماعيّة فحدّث ولا حرج، وهو ما يستدعي من السلطات العمومية إعطاء الأولوية الكاملة لهذين الملفيّن.

ولعلّ من المسائل التي صارت مقلقة في الجزائر هي تنامي الدروس الخصوصية في ظل ظروف كارثيّة واستغلاليّة في غالب الأحيان، وحان الوقت لتدخّل الدولة بجديّة من أجل تنظيم هذا القطاع الموازي للتعليم الرسمي.

وإذا كان مسؤولو وزارة التربية قد آثروا السكوت منذ سنوات على ما يحدث في مستودعات الدروس اللصوصيّة، لأنّ ثمراته الآنية، في تقديرهم الخاص، تصبُّ إيجابا في حصائل أعمالهم، من خلال رفع نسب النجاح والمعدلات المنفوخة، فإنّ المسألة أعمق وأخطر من ذلك بكثير، كونها أصبحت مساسًا مباشرا بقاعدة دستوريّة تتعلق بمجانية التعليم، طالما أن الانتقال، ناهيك عن التفوق، صار مرهونًا بدفع المال لمعلمين يقدمون خدمات خاصة ونوعية خارج الحجرات العمومية، ويعجزون عن ذلك داخلها بذريعة الاكتظاظ والحيز الزمني.

قد تكون المطالبة بمنعها نهائيا مبالغة، لكن تنظيم تلك الدروس داخل المؤسسات التعليمية العمومية نفسها وإيجاد صيغ قانونية وتنظيمية تحفظ حقوق المعلمين ليست مستحيلة، أمّا استمرار الوضع بصورته الحالية فهو انتهاك للقانون واستنزاف لجيوب عائلات جزائرية أنهكتها أعباء المعيشة وزادها التكفل التعليمي بأبنائها عبءا آخر غير مقدور عليه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!